فنان دون أن يدري ...بقلم الفنانة التشكيلية عفاف يوسف

قد تبدو الفنون بعيدةً عن تفاصيلنا اليومية، لكن تأملًا بسيطًا مابين الفن التشكيلى والموسيقى يكشف أن الإنسان يعيش الفن بإيقاعاته وألوانه منذ لحظة استيقاظه حتى نومه. الضوء الذي يتدرج من الشحوب إلى الامتلاء مع شروق الشمس واثره على كل ملموس، أصوات الشارع، وقع الخطى، ضجيج العمل، وحتى فترات الصمت بين كل ذلك، تشكّل سيمفونية حياتية يتقاطع فيها الموسيقى والتشكيل على نحو غير منظور.
فهما كيانان يتقاسمان الزمان والمكان، فالموسيقى فنٌّ زمنيّ يقوم على الامتداد والحركة، بينما الفن التشكيلي فنٌّ مكانيّ يُجمِّد الحركة داخل إطار بصري. غير أن الاثنين يتحالفان في التعبير عن المكنونات الداخلية والانفعالات الإنسانية العميقة. كلاهما محاولة لترجمة ما لا يُقال بالكلمات إلى محسوسات من الأصوات أو الألوان. وفي النهاية، يلتقيان في العقل، حيث تتحول الخبرة السمعية إلى صورة ذهنية، والخبرة البصرية إلى إحساس موسيقي.
وعَبْر مدارس الفن نجد أن الكلاسيكية الحديثة في الرسم عبّرت عن التوازن والصرامة، وجدنا مقابلها في الموسيقى الكلاسيكية الجديدة، وكما ظهرت الرومانسية في التشكيل متأثرة بالعاطفة والانفعال، تجسدت التعبيرية في الموسيقى كصوت لتلك الانفعالات. كذلك توازي الواقعية في الفن النزعة الموضوعية في اللحن، بينما تشترك التكعيبية مع الدوديكافونية في إعادة تنظيم العلاقات الداخلية بين العناصر، كأنهما لغتان مختلفتان لنفس الفكرة .
ايضا في العصر الحديث، اتخذ هذا التوازي بين الفنون بُعدًا آخر. فقد انصهرت الموسيقى والفن التشكيلي في تجارب متعددة الوسائط، كعروض الضوء والصوت، والإعلانات، والواجهات التفاعلية كواجهات المدن الذكية التي تتحرك فيها الألوان والإيقاعات معًا، لقد تحولت التجربة الجمالية إلى تفاعل بصري سمعي شامل.
هنا الفن ليس حدثًا استثنائيًا بل اصبح تجربة وجودية يعيشها الإنسان باستمرار. فكل لحظة تحمل شكلًا من التوازن أو الإيقاع أو التكوين. في ترتيب المكان، في طريقة السير، في انسجام الملابس أو الأطعمة على المائدة… كلها أفعال تحمل وعيًا جماليًا ضمنيًا. علم الجمال الحديث يصف ذلك بالخبرة الجمالية اليومية ، أي أن الإنسان يعيش الفن حتى وإن لم يكن فنانًا محترفًا.
يعيش الموسيقى - ليس كصوت نظامى ، بل كطاقة تُعيد بناء الإحساس بالزمن. فأصوات المدينة التي تتكرر يوميًا تُنتج نوعًا من الإيقاع الجمعي . تحول الحياة اليومية إلى مقطوعة متواصلة من الأصوات المتداخلة، تتطلب حسًا سمعيًا قادرًا على إدراك ما وراء الضجيج.
أما الفن التشكيلي فينقل لنا الجانب البصري من تلك التجربة. فالفنان حين يرسم سوقًا مزدحمًا أو غرفة ساكنة لا ينقل المشهد كما هو، بل يُعيد تنظيمه وفق إيقاع بصري يوازي الإيقاع السمعي في الموسيقى. كل لون يحمل درجة من النغمة، وكل خط يوازي حركة صوتية. ولهذا كثيرًا ما يُشبَّه الفن التجريدي بالموسيقى الخالصة، إذ يتحرر من الشكل الواقعي ليتعامل مع الإيقاع والانسجام كقيم قائمة بذاتها.
كل ذلك يقودنا إلى حقيقة أن الحس الفني ليس حكرًا على الفنانين، بل هو جوهر التجربة الإنسانية ذاتها. الإنسان يوزع ألوان يومه، يختار إيقاع حياته، يخلق التوازن بين العمل والراحة، بين الصخب والسكينة، وكأنه يعزف ويُشكِّل في آنٍ واحد. الفن والموسيقى ليسا رفاهية ثقافية بل شكلان من أشكال الوعي بالعالم.
إننا نعيش بين اللون والنغمة دون أن ننتبه، ولهذا يبقى كل إنسان في جوهره فنانا دون أن يدرى
الفنانة التشكيلية عفاف يوسف