الأحد 28 أبريل 2024 مـ 04:46 صـ 19 شوال 1445 هـ
جريدة النور
نادي النصر الرياضي
نادي النصر الرياضي
رئيس التحرير محمد حلمي

رسائل تصارع القدر!

ثمة حضور طاغ في هذه اللحظة التي أجلس فيها أمام البحر لشخصية "يحيى"، بما تحمله من رموز وتأويلات وأسئلة وجودية، أفرد لها داوود عبد السلام ثلاثة عوالم مختلفة وطرح من خلالها أسئلة وجودية أرهقنا بمحاولات الإجابة عنها. يقذف البحر أمامي الآن رسائله واحدة تلو الأخرى، لكنها بحاجة إلى قارئ كبير، حتى وإن علا كعبه واتسعت مداركه، أراه يجاهد ليصيب نصيبا ضئيلا من معناها ويستجديها لتمطر عليه فهما من سحائب وعيها المتقد، وقبسا من قدرتها على إيقاف عجلة الزمن المتدحرجة فوق جثته الحساسة، التي تنخره بعنف وبلا هوادة. تلك الرسائل عصية على الفهم لا تلين إلا لمن تجاوز مضارب السائد والنمطي واستطاع التمايز عن الحشد الخامل البليد. إنها الرسائل التي تسخر من الحلوى المقضومة المترامية على خط الحياة؛ ولا تكترث بلعبة المقايضة بين ترك ما نملك واللهث بفعل الغواية وراء ما لا نملك. وهي نفسها الرسائل التي ترغم القوى الخفية على الاعتذار ل "يحيى" بعد أن جعلته بيدقا أسيرا في رقعة شطرنج، أداة لا حيلة لها في جهاز سلطوي عنيد غير عادل. لم تنس رسائل البحر"يحيى"؛ لازالت تذكره وتواسيه وتلتمس له العذر إن صادفت شيئا من دموعه الفجائية، تلك الدموع التي تشبه أمطار الصيف النادرة غير المقنعة. إنها دموع تربص وثأر وانتقام، تتحد مع غيرها من حزن بسيط آنٍ وتجعل منه فتيلا وشرارة، لتنتقم من إنكار وتجاهل لحظة حزن عظيمة فائتة، كانت هي بيت القصيد والجرح الغائر الذي لا يندمل. رسائل البحر الآن ومن خلفها درويش قائلا: "خذ صفاتي وامتحن غيري. حملتك حين كنا قادرين على عبور النهر متحدين...أنت أنا"، وكذلك النسائم الباردة الحرة التي خلعت لأجلها الآن معطفي وحذائي تخبرني بأن "يحيى" في "أرض الخوف" كان يحظى ب قدرات غير عادية، كتلك التي تحظى بها شجرة سامقة حين تعصف بها الرياح. تلك القدرات غير العادية هي التي تصقل جناحيه الآن ليحلق بعيدا ويحط على فضاء جديد، بعيدا عن "أرض الخوف". لقد جعل من "وهم الإبراء" (Delusion of Reprieve) عند فيكتور فرانكل حقيقة آمن بها حتى نجا في اللحظة الأخيرة من حكم الإعدام الذي صدر ضده في "أرض الخوف". يحيى" في رحلته للفضاء الجديد ترك كل شيء خلفه عدا "فريدة". إنه يحلق الآن معها باتجاه مجهول لم يحشد لمواجهته سوى مبدأ "التباين". إنه لن يفعل كما فعل( PK) في القصة الهندية؛ لقد تعلم الدرس جيدا وألقى بالقلادة التي قد تعيده إلى "أرض الخوف" في مجاهل لا يعرف لها قرار. إنه لن يبحث عن الإله في فضائه الجديد ليستنجد به كي يعيد إليه قلادته، ولن ينصاع للأحاديث غير العقلانية، فهو ليس طفلا عاريا تغريه الحلوى المتأرجحة على خيط المستقبل. إنه يتهيأ للرحلة كما تتهيأ عروس شابة لأول ليلة حب؛ ليلة يتوقع أن تمضيها في حضن عاشق محموم ترتقبه بشغف ولهفة، بعدما أمضت ألف ليلة وليلة في فراش قرين بارد مهزوم. إنه بالطبع يبتعد الآن عن أعين كل رقيب متلصص؛ تلك الأعين التي إن علمت برحلته ستوبخه حتما، لأنه يخاطر بحياته ولا ينصت إلا لصوت عقله فقط؛ إنها الأعين التي كانت تأمره أن يعاشر بالعادة ويضاجع بالواجب دون أن يأمل في سقيا تروي ظمأه بعد جفاف السدود وغياب الغيوم. تلك الأعين هي نفسها التي كان يتحدث إليها "يحيى" في السابق كطفل يتحدث إلى دمية يعلم أنها لا تفهمه ولذلك لم يكن ينتظر منها ردا قط. إنها أعين الآلهة التي تشبه آلهة (PK) ، آلهة خلقناها نحن ونفخنا فيها الروح وجعلناها كاذبة متصنعة مخادعة، ومنحناها السلطة والوصاية دون أن نعلق فوق عروشها سيف ديموقليس. نحن من شحذنا همتها بروح الثورة حتى صارت كمثل "الآلهة العطشى" للدماء كما في رائعة أناتول فرانس. إنها أعين "إيفارست" التي كانت تسوق كل من يهدد سلطانه ويدنس أفكاره إلى المقصلة. إنها الآلهة التي تتقيأ من رأسها التابوهات وتقذفها في وجه من تشاء، وهي الأشباح التي تستهلك ظل من تشاء .لقد أوجعهم "يحيى" قبل أن يغادر "أرض الخوف" حين قال لهم-وقد عظمت مصيبته- "إنني في نعيم من أمري"، أوجعهم حين صمد أمام معاناته وحارب صراعه النفسي بعلاج "القصد العكسي". لقد سخر من معاناته وجعل من بلادته في التعامل معها ميكانيزم للدفاع عن الذات، وامتدادا لثقته بنفسه. كانون يظنون أن "يحيى" كإنسان قد لقي حتفه بعد أن مر بمحنة أفقدته صوابه وهزت عرشه وأحالته إلى صريع بائس عليه أن ينزوي في ركن بعيد كما أرادت له الآلهة المخلوقة. إنه في نعيم من أمره ولم يستطع ابتلاؤه أن يحول بينه وبين اختبار مصفاة المثلث (أرسطو) الخارج عن نطاق أخلاق سمواتهم المطبقة على الأرض. صارع "يحيى" القدر قبل أن يغادر أرض الخوف معلنا العصيان، وفعل كما فعل "كازنتزاكيس" حين جمع البحر كله في زجاجة وبعث بها في تقرير إلى "غريكو" محدثا إياه عن الواجبات الإنسانية الثلاثة، التي إن تبعها الإنسان لن يخيفه عمق البحر وغدره، والتي كان أولها: واجبه نحو عقله الذي يفرض النظام على الفوضى ويقيم الجسور فوق عالم اللامفهوم، ويضع الحدود المعقولة التي لايجرؤ أحد على أن يتخطاها، وثانيها واجبه نحو قلبه الذي لا يعترف بحدود، والذي يتوق إلى النفاذ وراء الظواهر ليمتزج بما هو أبعد من العقل وبما هو وراء المحسوس، أما ثالثها فهو أن يحرر نفسه من العقل والقلب وأن يحتضن هاوية الزوال بلا أمل، وألا يعترف بشيء لا بالحياة ولا بالموت، وأن يتلقى هذه الحميمية بسمو وشجاعة. هذا هو السبيل الذي سيتبعه "يحيى" ليقيم لحياته بناء راسخاً فوق الهوة السحيقة التي لامفر منها، وقد سرى في بدنه الفرح المشوب بالحزن، معلنا ومجاهرا بأنه لم يعد قابلا للاستعمار.