بوابة النور الاخبارية

الجميلي أحمد يكتب: «بين الفطرة والتقنية: ملامح الإبداع في قصائد عمرو الأنصاري»

الأربعاء 1 أكتوبر 2025 11:15 صـ 8 ربيع آخر 1447 هـ

في جنوب مصر، حيث الشمس تُصافح النيل كل صباح، وتختلط زرقة السماء بزرقة الماء، وُلد عمرو الأنصاري في الأول من فبراير عام 1994 ببلدة قرية المنصورية، محافظة أسوان. هناك، في أرضٍ تعرف الصلابة كما تعرف الرهافة، تشكّل وعيه الأول؛ فتيٌ صعيديّ حمل إرث الجنوب في ملامحه وصلابة كلمته، وخرج إلى الدنيا شاعرًا يعرف الشعر ويجيد أدواته، يمتلك من الإحساس ما يجعل قصيدته رصاصة من نور، ومن الموهبة ما يجعل حضوره أشبه بصاروخ لا يلتفت إلى الوراء.

تخرّج عمرو الأنصاري في كلية الزراعة – جامعة الأزهر دفعة 2018، لكن قلبه ظلّ يزرع الحروف قبل الحقول، ويروي المعاني قبل الأشجار. حين يُلقي قصيدته، يفتح للسامع أبوابًا من الدهشة، فتدخلنا كلماته إلى عالمه الداخلي حتى نكاد نلامس حالته، ونسترجع معه ماضينا الشخصي. كان لقاؤه بالقاهرة محطة فاصلة؛ هناك التقى بشعره على نحو جديد، فواجه شروره الداخلية، وتخلّص من قيودها، ليبدأ مرحلة أوسع من الانفتاح والخلق.

ومن هذا العبور الروحي والفني، وُلد حلمه الكبير، تلك المساحة التي لم يكتفِ فيها بتقديم قصيدته فحسب، بل فتح من خلالها نوافذ جديدة، مؤمنًا بأن الأدب وعدٌ لا ينقضي، وأن الثقافة جسر يعبر به الإنسان من عتمة الفرد إلى نور الجماعة.

هكذا يتجلى عمرو الأنصاري؛ ابن الجنوب، شاعر الدهشة، وزارع الحروف، الذي جعل من الشعر بداية، ومن حياته شهادة حيّة على قدرة الكلمة أن تهزم الصمت وتفتح الدروب.

وفي هذه الدراسه ركزت علي المقاطع القصيرة لدي عمرو لأبني عليا دراستي هذه

يقول

الصبح
زغزغة النهار في عنيك
صوت العصافير الحيارى النادمة
عن ما حدث بالليل
الديك صياحه إنعكاس صمتين
الشمس بتراود الجميع عن نفسها
وتقد أي قميص مش شرط يبقى منين

. المدخل ودلالته – «الصبح»

اختيار كلمة الصبح مدخلا منفردًا يمنح النص بساطةً ظاهرة وعمقًا ضمنيًّا. فهو لا يصف صباحًا بعينه، بل يقدّم الصبح كحالة وجودية، كبداية وولادة جديدة، تتقاطع فيها العادات اليومية مع أسرار الليل.

2. الصور الشعرية

«زغزغة النهار في عنيك»

تشخيصٌ النهار يتحوّل إلى عصفور يزغزغ داخل العينين، فيصير الصبح إحساسًا داخليًا، لا مجرد وقتٍ من اليوم.

الجمع بين «النهار» و«العين» يخلق علاقة حميمية بين الطبيعة والذات.

«صوت العصافير الحيارى النادمة عما حدث بالليل»

العصافير، رمز النقاء والبراءة، تُنسب إليها الحيرة والندم، وكأن الليل شهد أحداثًا أو خطايا تستدعي الاعتذار.

هنا يلتقي الواقعي (صوت العصافير) بالميتافيزيقي (إحساس الندم).

«الديك صياحه انعكاس صمتين»

مفارقة لغوية بارعة؛ الديك المعروف بصياحه يصبح صدى لصمتين: صمت الليل وصمت النفس، في لحظة الانتقال بين عالمين.

«الشمس بتراود الجميع عن نفسها»

إضفاء صفات إنسانية (المراودة) على الشمس يحوّل طلوعها إلى لعبة غواية، حيث تبدو وكأنها تمنح نورها بإغراءٍ متعمد.

«وتقد أي قميص مش شرط يبقى منين»

حركة الشمس وهي «تقد» (تخترق/تمزق) أي قميص، إشارة إلى سطوة الضوء الذي لا يعترف بحدود أو أصول، فتغدو الشمس قوة مساواة تكشف ما تحت القماش والمكان.

3. الموسيقى الداخلية

تكرار أصوات الزاي والغين والقاف في «زغزغة»، «صوت

وفي مقطعة الآخر يقول

انا قلبي ده مش بفتحه
غير للي يستاهله ك وصلاً
انا قلبي ده مش بفتحه
أصلاً
قافل عليه ومغلفه وحالف يمين
مايحن قلبي غير لحد يكون أمين
يدخل يعشش جوا منه ويمشي فيه
ويصلي لله ركعتين وينادي حي على الفلاح
انا قلبي دايما غير متاح ومفيش عزيز قده
انا قلبي لما جه الزمن هده
لملم جراحه وراح بعيد واتخبى في شوارع الأنين
مرت عليه الثانية والساعة بسنين
ومراحش يشحت حتى كلمه تطيبه
علشان كده انا قلبي ده لو تحته نار ماتطيبه
ولا عمره يضعف للقلوب لو فيها زيف

هذا المقطع يبوح بوجعٍ شخصي عميق، يقدّم قلب الشاعر بوصفه بطلاً وحيدًا في مواجهة الزمن والخيانة. النص ينتمي إلى شعر البوح والاعتراف، حيث تتجلّى اللغة كدفاعٍ عن الكرامة، لا كاستجداء للعطف.

البنية الدلالية

القلب حصنٌ مُغلق:

«انا قلبي ده مش بفتحه… قافل عليه ومغلفه وحالف يمين»

تتكرر صيغة النفي («مش بفتحه»، «قافل»، «مغلف») لتأكيد قرار الانغلاق.

الحلف باليمين يضفي طابعًا مقدسًا، كأن الامتناع عن الحب عهدٌ ديني لا يُمس.

الشرط الأخلاقي للحب:

«مايحن قلبي غير لحد يكون أمين»

يربط الشاعر الحنين بالأمانة، فيرتقي بالحب من مجرد عاطفة إلى اختبار قيمي؛ القلب لا ينفتح إلا لمن يملك الصدق.

القلب كبيت وموضع عبادة:

«يدخل يعشش جوا منه… ويصلي لله ركعتين»

صورة مزدوجة: الحبيب المحتمل ليس زائرًا عابرًا، بل ساكنًا ومتعبّدًا. الحب هنا عبادة ومسؤولية، لا نزوة.

إيقاع الألم

تكرار اللفظ («انا قلبي ده») يخلق نغمة إصرار وعتب في آنٍ واحد.

الانتقال من إيقاع قصير حاد («انا قلبي ده مش بفتحه») إلى جمل أطول («مرت عليه الثانية والساعة بسنين») يحاكي امتداد المعاناة عبر الزمن.

مواجهة الزمن

«لما جه الزمن هده / لملم جراحه وراح بعيد»

الزمن يُصوَّر كقوة مدمرة، لكن القلب يظل قادرًا على لملمة الجراح والابتعاد، في إشارة إلى صلابة الشخصية.

«مرت عليه الثانية والساعة بسنين»

المبالغة الزمنية تجسد ثقل الانتظار والوحدة؛ الدقيقة تتحول إلى دهور.

فلسفة النص

الحب ليس استسلامًا بل اختيار واعٍ، يتطلّب صدقًا عميقًا.

الألم لم يكسر القلب بل جعله «حصنًا من نار» لا تطفئه الكلمات المعسولة:

«لو تحته نار ماتطيبه / ولا عمره يضعف للقلوب لو فيها زيف».

هنا يعلن الشاعر رفضه لأي حبٍّ زائف، حتى وإن كان الثمن العزلة.

المقطع يُقدّم مانيفستو للحفاظ على الكرامة العاطفية؛ قلبٌ تعلّم من الخيانة أن يغلّف نفسه، لكنه لا يلغى إمكانية الحب الصادق، بل يرفعه إلى مقام الطهارة.
إنه نصٌّ عن القوة بعد الانكسار، عن قلبٍ اختار أن يكون «غير متاح» حتى يأتي من يستحقه كعبادة لا كلعبة.

يقول في مقطعة القادم

كانت جميلة بكل تفاصيلها
كانت بتمسح دمع منديلها
كانت رواية وصعب تأويلها
وعنيها قصة مليئة بالأسرار
كانت عنيها تهون السكة
والشوق اليها يسهل المشوار

هذا المقطع يفيض رهافة عاطفية ويمزج بين البساطة اليومية والرمز العميق، فيرسم ملامح امرأة تتحوّل إلى نصٍ غامض، وإلى رحلةٍ من التعلّق والافتتان.

1. مركز الصورة: المرأة/الرواية

«كانت جميلة بكل تفاصيلها»

افتتاح يقرّر الحقيقة بلا مواربة؛ الجمال هنا ليس مظهريًا فقط، بل جمال شامل يمتد إلى التفاصيل الصغيرة، ما يعكس نظرة عاشق يتأمل كل ذرة فيها.

«كانت رواية وصعب تأويلها»

تشبيه بديع يحوّلها من جسد إلى نص أدبي، لا يُقرأ بسطحية. هي رواية مفتوحة على احتمالات، تحتاج إلى قارئ صبور يفك رموزها.

«صعب تأويلها» يوحي بأن جمالها لا يُستنفد بالوصف، بل يُغري بالبحث والفهم.

2. الدموع والرمزية

«كانت بتمسح دمع منديلها»

مشهد بسيط لكنه محمّل بالدلالة: المنديل شاهد على لحظات ضعف أو حنين.

المسح بالمنديل يلمّح إلى قوة متخفية؛ هي تمسح دموعها بنفسها، تحفظ كرامتها رغم الألم.

3. العيون بوابة السر

«وعنيها قصة مليئة بالأسرار»

العين هنا ليست مرآة للقلب فحسب، بل أرشيف كامل من الحكايات المخبوءة.

كلمة «الأسرار» تفتح مجال التأويل: حب قديم؟ جرح مستتر؟ أو حياة كاملة لا يملك الراوي مفاتيحها.

4. العشق كطاقة تحريك

«كانت عنيها تهون السكة / والشوق اليها يسهل المشوار»

تتجسد قوة الحب في تسهيل الصعاب: العيون تهوّن الطريق، والشوق يحوّل المسافات إلى خطوة.

الجمع بين «السكة» و«المشوار» يضاعف الإحساس بالسفر، وكأن اللقاء بها غاية الرحلة وسببها في آن.

5. جماليات الأسلوب

التكرار (كانت… كانت) يخلق إيقاعًا حنينيًا، كأن المتكلم يسترجع صورها في ومضات متتابعة.

الموسيقى الداخلية: توازن الأصوات في «تفاصيلها/منديلها/تأويلها» يمنح النص غنائية ناعمة تناسب أجواء التذكر.

النص يرسم بورتريهًا لعاشقة غامضة؛ امرأة حقيقية لكنّها تتجاوز الواقع لتصبح رمزًا للرواية التي لا تنتهي.
جمالها ليس في ملامحها فقط، بل في لغزها، في دمعة تمسحها وحدها، وفي عيون تحمل أسرارًا تجعل الطريق إليها رحلةً وجودية، لا مجرد لقاء عابر...

ويقول عمرو الانصاري في مقطعه هذا

الفجر
ريحة حبيب كان كل ما يهمه
انه يكون وردك ف تبوسه وتشمه
صوت الأدان بيناجي في التايهين
عن حد حب وحبه ناس تانيين
وآمين بتطلع قبل ماتفارق هواك
وهُداك بياخدك من هنا لهناك
فتروح تكمل بُكى لكن في حضن اكبر
ترجع بعودك طري من بعد شيب أخضر
فتنام سنين في ساعات وتعيش ممات اصغر
والورد لو قرر يخرج من الرئتين
يلزمله شمس هتكوي بعده جراح
الفجر بيغمض عنيه م الخوف
وعشان كده لازم وجود الصباح

هذا النص يتعامل مع الفجر لا كوقتٍ زمني فحسب، بل كحالة روحية عميقة، يمزج فيها الشاعر بين الحنين العاطفي والتطهر الروحي، فيصوغ رحلةً من الوجع إلى الخلاص. جماله يكمن في الصور المركبة التي تجمع الحب، الصلاة، والموت الصغير.

1- افتتاحية الحنين – «ريحة حبيب»

«ريحة حبيب كان كل ما يهمه / إنه يكون وردك ف تبوسه وتشمه»

يستحضر الشاعر رائحة الحبيب كأول ملامح الفجر، كأن النسيم الصباحي يحمل أثره.

تشبيه الحبيب بـ«وردك» يجمع الحواس (الشم، اللمس، التقبيل) ويكثّف الحضور العاطفي في صورة زهرية نابضة بالحياة.

هنا الفجر ليس بداية يوم، بل استدعاء للماضي الذي لا يزال عالقًا في الأنفاس.

2- البُعد الروحي – الأذان والهداية

«صوت الأدان بيناجي في التايهين / عن حد حب وحبه ناس تانيين»

الأذان يتحوّل إلى نداء للضالين، لكنه يحمل مفارقة: يبحث عن «حد حب» ضاع حبه بين الآخرين.

كأن الشاعر يلمّح إلى حب إلهي صافٍ في مقابل حب بشري منقوص.

«وآمين بتطلع قبل ماتفارق هواك / وهُداك بياخدك من هنا لهناك»

تداخل الدعاء («آمين») مع «هواك» يخلق التباسًا جميلًا بين العبادة والحب.

«هداك» يأخذك من «هنا» إلى «هناك»؛ انتقال من الأرضي إلى السماوي، من العشق البشري إلى طمأنينة أعلى.

3- رحلة الألم والتحول

«فتروح تكمل بُكى لكن في حضن أكبر / ترجع بعودك طري من بعد شيب أخضر»

البكاء هنا تطهر، والحضن الأكبر يرمز إلى حضن الخالق أو الكون.

«شيب أخضر» مفارقة لونية بارعة: الجمع بين شيب (الشيخوخة) والأخضر (الحياة) يرمز إلى تجدد بعد إنهاك.

العودة «بعود طري» بعد هذا الاحتضان تعني بعثًا داخليًا يعيد الشباب إلى الروح.

4- الموت الصغير والزمن المتحوّل

«فتنام سنين في ساعات وتعيش ممات أصغر»

صورة شعرية دقيقة تصف تعليق الزمن في لحظة الفجر؛ حيث النوم/التأمل يعادل حياة كاملة أو موتًا مؤقتًا.

5- الورد والجراح

«والورد لو قرر يخرج من الرئتين / يلزمله شمس هتكوي بعده جراح»

الورد رمز للحب أو الإحساس الدفين. خروجه من الرئتين يعني إعلان المشاعر.

لكن خروجه يعرّض للجراح؛ فالإفصاح عن الحب يتطلّب مواجهة «شمس» الحقيقة المؤلمة.

- ضرورة الصباح

«الفجر بيغمض عنيه م الخوف / وعشان كده لازم وجود الصباح»

الفجر، على رغم جماله، لحظة هشاشة وخوف؛ إنه حدّ بين ظلمة وضياء.

«وجود الصباح» ضرورة كونية ونفسية، فهو اكتمال دورة النور وانتصار اليقين على الخوف.

النص يقدّم الفجر كرحلة تحوّل:

من رائحة الحبيب إلى نداء الأذان،

من بكاء الانكسار إلى حضن الخالق،

من موتٍ أصغر إلى بعث صباحي.

إنه مقطع يزاوج الحب الصوفي بالعاطفة الإنسانية، حيث تتجاور لذة الذكرى ومرارة الفقد، ويصبح الصباح خلاصًا وجوديًا لا مجرد بداية يوم جديد.

ويقول الانصاري في مقطع آخر

مين اللي قال للنجمة تلمع للبشر وقت اصطفاف
مين اللي قال ان الهتاف كان من نصيبها وبختها
مين اللي قاللي اكتبلها حبة مشاعر في الورق
طال السبق وانا كنت بجري عشان مفيش
جربت اعيش كل المشاعر في الخفا
بصيتلها بعيون بتبرد كل ما يزيد الدفا
وتشوف حجات كل البشر ميحسوهاش
كان نفسي استر جرح فيا بتوب قماش
ومسيبش دمي تلوثه عيون الجناه
كان نفسي اقولك ياحبيبتي ان الحياه
مش شرط تهدينا الطريق
مش شرط ترمي الطوق على دراع الغريق
ممكن تسيبه منه ليه او منه للموج اللعين
دورت في الناس أجمعين على اي حد يكون دليل
نفسي اللي تاهت في الطريق ملقيتش غيري يدلها
ملقيتش حد اشبهلها مني
كان نفسي اشيل النجمة في النني... يتبع

هذا المقطع يفتح نافذة على مونولوج داخلي ممتد، حيث يتقاطع الحلم العاطفي مع التأمل الوجودي، ليقدّم صورة نجمة/حبيبة تحمل أبعادًا رمزية عميقة. الشاعر هنا ليس مجرد عاشق، بل متسائل أمام فكرة القدر والمصير، وأمام قسوة العالم في منح الضوء لمن يشاء.

البنية والمعنى
1. النجمة بوصفها معشوقة وقدر

«مين اللي قال للنجمة تلمع للبشر وقت اصطفاف / مين اللي قال ان الهتاف كان من نصيبها وبختها»

استفهامات متلاحقة تنقض فكرة أن الشهرة أو اللمعان أمر مستحق أو محسوم.

«النجمة» تتحول إلى كائن أسطوري يلمع ليس بقرارها، بل بقرار قوى غامضة (القدر/السماء/الناس).

هذا التشكيك يكشف إحساس الشاعر بالظلم أو التفاوت في توزيع النور.

2. العاشق المهمَّش

«طال السبق وانا كنت بجري عشان مفيش»

مفارقة مؤلمة: يركض دون جدوى، بينما غيره يسبق.

الجملة القصيرة المكثفة تعكس إرهاق السعي وانعدام المكافأة.

3. حب مكتوم

«جربت اعيش كل المشاعر في الخفا»

الحب هنا سريّ، يحيا في الظل.

الخفاء ليس ضعفًا بل وسيلة لحماية الذات من جرح جديد.

4. برودة العيون ودفء المشاعر

«بصيتلها بعيون بتبرد كل ما يزيد الدفا»

تناقض حراري بديع: العين تبرد كلما زاد الدفء، كأن الخوف من الانكشاف يجمّد لحظة الحميمية.

5. جراح مكشوفة ومحاولة ستر

«كان نفسي استر جرح فيا بتوب قماش / ومسيبش دمي تلوثه عيون الجناه»

هنا نغمة دفاع عن الكرامة؛ الشاعر يريد ستر جرحه بعيدًا عن أعين «الجناة» (ربما الحساد أو الخائنين).

الجرح مادي (دم) لكنه يرمز إلى ألم عاطفي أو وجودي.

6. حكمة الحياة

«كان نفسي اقولك ياحبيبتي ان الحياه مش شرط تهدينا الطريق…»

إدراك ناضج: الحياة لا تضمن خلاصًا، قد تترك الغريق بلا طوق.

صورة «الطوق» أمام «الموج اللعين» تلمّح إلى قسوة الأقدار وعدم عدالة النجاة.

7. وحدة الباحث

«دورت في الناس أجمعين على اي حد يكون دليل / نفسي اللي تاهت في الطريق ملقيتش غيري يدلها»

اعتراف بالوحدة: لا دليل سوى الذات الضائعة نفسها.

تكرار «ملقيتش» يكرّس الإحساس بالعجز والانفصال عن الآخرين.

8. تطابق الحبيب والذات

«ملقيتش حد اشبهلها مني»

ذروة الإدراك: الحبيبة/النجمة أقرب إلى نسخة من الشاعر، أو ربما هي انعكاس لروحه.

هذا يكشف أن الحب ليس امتلاكًا، بل بحث عن الذات في الآخر.

9. النجمة في النني

«كان نفسي اشيل النجمة في النني»

خاتمة مدهشة: يريد أن يحملها في حدقة العين، حيث الرؤية والحماية.

النني مكان الرؤية الداخلية، كأنه يسعى إلى تملك ضوءها في داخله بدلًا من محاولة الوصول إليها في السماء.

الجماليات الفنية

تكرار الاستفهام («مين اللي قال…») يمنح النص توترًا موسيقيًا ويؤكد حالة التمرد.

الصور الحسية (برد/دفا، جرح/دم، طوق/موج) تجعل المشاعر ملموسة.

الإيقاع الحر يعكس اضطراب الداخل، فلا يخضع لقافية تقليدية بل يتنفس بحرية.

هذا النص رحلة حائر عاشق يرى في النجمة/الحبيبة رمزًا للقدر والذات المفقودة.
هو احتجاج على قوانين الكون، واعتراف بجرح شخصي، ومحاولة لالتقاط النور لا بيدٍ ممدودة، بل بعينٍ حافظة.
إنه حوار بين السمو والرغبة، بين الانكسار والبحث عن معنى، حيث يتحوّل الحب إلى وسيلة لاكتشاف النفس أكثر من كونه مجرد علاقة عاطفية.

ويقول

مين اللي قال انك في قلبك بنك
بيحطو فيه حبة مشاعر خادعة
فتردها أضعاف
مين اللي قالك تطبخ الأفراح
في جوف الخلق
وتبر نفسك بالرغيف الحاف
مين اللي قال انك تقطع لحمك الشبعان أنين
وبتغزلو في مر السنين
وتغطي بيه البردانين فيكون لحاف
مين اللي قال الشِعر مش بيخاف !!

هذا المقطع يتسم بطاقة احتجاجية عالية، يمزج بين سؤال استنكاري وصور مجازية لافتة، ليكشف صراع الشاعر مع فكرة استغلال المشاعر والشعر نفسه.
الأسلوب يضرب في عمق الرمز الشعبي (البنك، الرغيف، اللحاف) ويحوّل اليومي إلى صور شعرية نابضة.

أولًا: التحليل الدلالي

قلبٌ كالبنك

«مين اللي قال انك في قلبك بنك / بيحطو فيه حبة مشاعر خادعة / فتردها أضعاف»

صورة مجازية: القلب بنك يودع فيه الآخرون مشاعر كاذبة، ثم يعيدها أضعافًا.

المعنى: الشاعر يرفض أن يكون قلبه مكانًا لاستثمار العواطف أو مضاربتها، فهو ليس خزينة ولا ماكينة رد الجميل.

الجمال في المفارقة: القلب عاطفة، بينما البنك اقتصاد، وهذا التضاد يفضح تشييء المشاعر.

طبخ الأفراح في جوف الخلق

«مين اللي قالك تطبخ الأفراح في جوف الخلق»

صورة حسية ساخرة: الأفراح كطعام يُطبخ داخل الناس، وكأن الفرح يمكن صناعته ميكانيكيًا.

توحي بمحاولة افتعال السعادة للآخرين على حساب الذات.

تبرير النفس بالرغيف الحاف

«وتبر نفسك بالرغيف الحاف»

الرغيف الحاف رمز للقناعة والزهد، لكن وضعه في سياق التبرير يوحي بأن القناعة هنا ذريعة للاستسلام.

تقطيع اللحم الشبعان أنين

«انك تقطع لحمك الشبعان أنين / وبتغزلو في مر السنين / وتغطي بيه البردانين فيكون لحاف»

صورة مركّبة شديدة القوة:

اللحم الشبعان أنين: الجسد نفسه ممتلئ بالوجع (شبع = امتلاء، أنين = ألم).

غزل اللحم: تحويل الألم الشخصي إلى خيوط.

اللحاف: استخدام هذا الألم لحماية الآخرين من برد الحياة.

هذه السلسلة تكثف فكرة التضحية الإيثارية؛ الشاعر ينسج من عذابه دفئًا لغيره.

الشعر الذي لا يخاف

«مين اللي قال الشِعر مش بيخاف!!»

قلب المفهوم: الشعر – رمز الجرأة – يُعلن خوفه.

هنا اعتراف بأن الحساسية الشعرية لا تعني المناعة، بل تجعل صاحبها أكثر عرضة للفزع.

ثانيًا: الصور البلاغية البارزة
الصورة نوعها جمالها
القلب بنك استعارة تصريحية تقاطع العاطفي مع الاقتصادي يكشف استغلال المشاعر.
طبخ الأفراح استعارة حسية تحويل الفرح إلى عملية مادية (طبخ) يفضح زيف السعادة المصطنعة.
تبرير النفس بالرغيف كناية القناعة الزائفة كغطاء للتقصير أو التواطؤ.
لحم شبعان أنين صورة مركّبة/تشخيص يجمع بين الامتلاء (شبع) والألم (أنين)، يضاعف الإحساس بالفقد.
غزل اللحم لحافًا استعارة متسلسلة سلسلة تحويلات (لحم→غزل→لحاف) تعبر عن بذل الذات حتى الفناء.
الشعر يخاف مفارقة يقلب صورة الشعر الجريء ليكشف هشاشة الشاعر.
الخلاصة الأدبية

النص يصرخ في وجه كل من يطالب الشاعر بأن يكون خزينة للعواطف أو مصنعًا للأفراح أو قربانًا للآخرين.
إنه يعلن أن الشعر، مهما بدا قويًا، يظل كائنًا إنسانيًا يخاف وينزف، وأن أجمل دفء يقدمه للناس قد يكون من لحم معاناته الخاصة.

ويقول

كنت واقف بدعي ربي
يرسل الإمداد لدمي
كنت شايل وحدي همي
وماشي بتلفت عليكم
كنت مادد ايدي ليا
لما شلتو كمان ايديكم
واتنغز في القلب نغزة
كنت شايف عِزي بيكم
اما حالاً صمتي عِزة
كنت رايح وانتو عزوة
فجأة بعترتو المعزة
كنت اثبت قلب فيكم
وانتو كان جواكو هزة
لما جيت الجأ اليكم
قلتو فاكر نفسه حمزة
لما حمزة أشاد بنفسي ندهلها
من وقتها
ممشيتش من غزة

أما هنا يفيض بطاقة مرارة وانكسار ممزوجة بكبرياء، ويكشف رحلة الشاعر من الثقة والاعتماد إلى الخيانة والخذلان، مع حفاظه في النهاية على عزة الصمت رغم الألم.
فيما يلي تحليل أدبي مفصّل مع استخراج الصور والدلالات:

أولاً: المعنى والمقصد

الشاعر يروي تجربته مع أصدقاء أو رفاق كان يراهم سندًا وعزوة، لكنه يُفاجأ بتخلّيهم عنه في لحظة احتياجه إليهم.

يبدأ النص بصورة دعاء صادق: “كنت واقف بدعي ربي” وكأنه يطلب العون من السماء قبل البشر، ثم ينتقل إلى كشف خذلان الأرض.

النص ينتهي بإشارة إلى الثبات وعدم الاستسلام: “ممشيتش من غزة” – سواء كانت غزة رمزًا لمكان الصمود أو مجازًا لمعركة الحياة، فهو يعلن أنه لم يترك ميدان المواجهة رغم الخيانة.

ثانيًا: الصور الشعرية والرمزية

“يرسل الإمداد لدمي”

تصوير رائع للقوة المعنوية كأنها إمداد عسكري يسري في الدم.

يربط الدعاء بالدم مباشرة ليُبرز شدة الاحتياج للحياة والصمود.

“كنت شايل وحدي همي وماشي بتلفت عليكم”

صورة للحائر الذي يحمل همًا ثقيلًا ويلتفت حوله بحثًا عن الدعم.

الالتفات هنا ليس جسديًا فقط، بل هو التفات وجداني نحو رفاق يتمنى عونهم.

“لما شلتو كمان ايديكم”

استعارة قوية للخيانة: سحب الأيدي رمز لانسحاب المساعدة، وكأن الأيادي كانت جسرًا للحماية فتم سحبه فجأة.

“واتنغز في القلب نغزة”

تعبير عامي حسي، يحول الخذلان إلى وخزة جسدية محسوسة في القلب، فيجعل الألم ملموسًا.

“صمتي عِزة”

تحويل الصمت من علامة ضعف إلى قيمة وقوة؛ الصمت هنا يصبح درعًا يحفظ الكرامة.

“فجأة بعترتو المعزة”

“بعترتو” (بعثرة) توحي بأن الرفاق حطموا رابطة المودة كما تُبعثر الأشياء الثمينة.

“قلتو فاكر نفسه حمزة”

إشارة إلى حمزة بن عبد المطلب (أسد الله)، رمز القوة والشجاعة.

رفاقه يسخرون من اعتداده بنفسه، وكأنهم يقولون إنه يتوهم البطولة.

“لما حمزة أشاد بنفسي ندهلها”

كناية عن الاعتزاز بالنفس الذي استثارهم، فدعوا عليه أو تخلوا عنه.

“ممشيتش من غزة”

سواء أكانت غزة المكان أو رمزًا لميدان صراع، فهي صورة للصمود والبقاء رغم كل الضغوط.

ثالثًا: البناء الفني

التكرار: كلمة “كنت” تتكرر لتأكيد سلسلة من الخيبات المتتابعة، ولخلق إيقاع حزين متصاعد.

الانتقال الزمني: من الدعاء والثقة → إلى الخذلان → إلى الصمت والاعتداد → إلى إعلان الثبات.

اللغة: المزج بين الفصحى والعامية (“بعترتو، نغزة، ممشيتش”) يمنح النص صدقًا شعوريًا وقربًا من المتلقي.

رابعًا: مواضع القوة

القدرة على جعل الخيانة ملموسة بصور حسية (نغزة، سحب الأيدي، بعثرة).

مفارقة الصمت = عِزة تعكس نضجًا داخليًا يواجه الطعن بالكبرياء.

الإشارة إلى غزة كخاتمة تمنح النص بعدًا رمزيًا سياسيًا/إنسانيًا للصمود.

النص قصيدة خذلان وصمود، يصور رحلة إنسان آمن بالرفاق، فخُذل، لكنه اختار أن يحفظ كرامته بالصمت، وأن يظل ثابتًا في ميدانه.
القوة الحقيقية هنا ليست في الشكوى، بل في القدرة على تحويل الجرح إلى كبرياء، وعلى البقاء في “غزة” كرمز للأرض التي لا تُترك رغم الألم.

ومن هنا فإن عمرو الأنصاري شاعرا يمتلك موهبة فطرية لافتة وقدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة وتحويلها إلى صور شعرية نابضة بالحياة. في معظم نصوصه يظهر بوضوح:

صدق التجربة: يكتب من قلبه، فينفذ إلى قلب القارئ بلا حواجز.

غنى الصور: يستخدم استعارات مبتكرة مثل «إمداد لدمي»، «زرع شرايين الهوى»، «بعترة المعزة» لتجسيد المشاعر.

إيقاع متنوع: يمزج بين الفصحى والعامية دون تكلف، فيخلق لغة خاصة تجمع دفء اليومي وعمق الشعر.

حس سردي: قصائده تحمل حكاية أو رحلة، فلا يكتفي بالوصف بل ينسج مسارًا شعوريًا متصاعدًا.

التكثيف الشعري

بعض المقاطع تطول بتكرار ألفاظ أو صور متقاربة، فيخفت تأثير الدهشة.

فلو أن جرب عمرو حذف الزوائد والاعتماد على الجملة المكثفة التي تترك أثرًا أعمق لكان الجمال اكثر.

تنويع البناء

معظم النصوص تعتمد التدفق الحر؛ يمكن تجربة أشكال أخرى (مقاطع قصيرة، حوار داخلي، تقفية جزئية) لإبراز الموسيقى الداخلية.

العناية بالانتقال بين العامية والفصحى

مزج اللهجتين يمنح حرارة، لكن لابد من الحرص على ضبط الانتقال حتى لا يفقد النص انسجامه.

توسيع أفق الرموز

عمرو الأنصاري يمتلك حسًا قويًا بالرمز (الليل، الفجر، الدم، النجمة).

فعليه أن يحاول إدخال رموز جديدة من الطبيعة أو التاريخ أو الفنون لتفتح مسارات أعمق للقراءة.

التجريب في الإلقاء والأداء

لابد وأن يفكر جيدا في تسجيل أشعاره صوتيا لأن نصوصه مكتوبة بروح مسموعة؛ تسجيلها بإلقاء صوتي أو أداء مسرحي سيضاعف تأثيرها، خاصة في الأمسيات الشعرية.

وفي النهاية سعدت أنا بقراءة هذا الفتي الذي أقدم له باقات من الورود والمحبة
فإن عمرو الأنصاري شاعرا حقيقي وصاعد، يكتب بحرارة التجربة ويملك أدوات اللغة والصورة.
بمزيد من الصقل والتجريب، يمكنه أن يتحول صوت شعري مؤثر في المشهد الثقافي المصري والعربي.