الأدب الذي أنجب القانون : من شكوى الفلاح الفصيح إلى شرائع حمورابي
لم تولد فكرة العدل في قصور الملوك ولا في أروقة القضاة بل خرجت أولًا من قلب الأدب من حكاية الإنسان البسيط الذي لم يجد وسيلةً للدفاع عن حقه سوى الكلمة كانت شكوى الفلاح الفصيح في مصر القديمة أول نصٍّ أدبيٍّ يرفع الكلمة إلى مقام العدالة حين وقف فلاح فقير أمام السلطة لا يطلب الرحمة بل يطالب بالحق
لقد أدرك المصري القديم أن الأدب هو اللغة التي تكتب بها الروح احتجاجها على الظلم وأن البلاغة ليست زينة الكلام بل سلاح الضعيف في وجه القوي في البرديات التي حفظت صوته كان الفلاح يتحدث بلسان الفلاسفة قبل أن يولد الفلاسفة أنفسهم وكان يربط بين الأخلاق والقانون كما سيربطهما الفكر الإنساني لاحقًا عبر القرون
ويقول المؤرخ (جيمس برستد) إن شكوى الفلاح الفصيح هي أول وثيقة في تاريخ الأدب تُعبّر عن الضمير الأخلاقي للمجتمع فالنص لم يكن صرخة فردٍ مظلوم فحسب بل كان بداية وعي الإنسان بأن العدالة يمكن أن تُصاغ بالكلمة وأن القانون يبدأ حين ينطق الوجدان بالحق
وفي الضفة الأخرى من التاريخ كانت بابل تكتب شرائعها على الحجر جاء حمورابي ليجمع قواعد العدل في ألواحٍ من الطين واضعًا أسس أول نظام قانوني مكتوب غير أن الصلة الخفية بين الفلاح المصري والملك البابلي عميقة كلاهما آمن بأن للحق لغة وأن النظام لا يقوم إلا إذا تكلّمت الكلمة بلسان العدالة فالأدب صاغ الوجدان والقانون ترجمه إلى فعل
من (كتاب الموتى) الذي علّم المصري كيف يدافع عن نفسه أمام محكمة الآخرة إلى شكوى الفلاح الفصيح التي علّمته كيف يواجه الظلم في الدنيا ومن شرائع حمورابي التي أرست قواعد العدل الأرضي يتجلى مسار واحد أن الكلمة سبقت القانون وأن الأدب كان أول مرآةٍ تعكس ضمير الإنسانية
الأدب لم يكن يومًا حكاية للتسلية أو الخيال بل كان الذاكرة الأخلاقية للعالم فحين نقرأ اليوم نصوص توفيق الحكيم في (أهل الكهف) أو (السلطان الحائر) أونستمع إلى صرخة نجيب محفوظ في (اللص والكلاب) ندرك أن الأدب ما زال يؤدي الدور ذاته الذي بدأه الفلاح المصري قبل آلاف السنين أن يذكّر الإنسان بما يجب أن يكون عليه العدل حين ينسى ما هو العدل
وهكذا من البردية إلى الرواية ومن الحجر إلى الورق ظل الأدب هو الذي يكتب قانون الإنسان الأول قانون الضمير لقد وُلدت الشرائع من رحم الكلمة وبقيت الكلمة رغم تغيّر العصور أقدم وأصدق مشرّع في التاريخ
