ليس الأدب زينة يتجمّل بها القارئ ولا وسيلة للمعرفة وحدها بل هو إحدى القوى الهادئة التي تعمل في باطن النفس فتُهذّب السلوك وتُقوّم الطباع من حيث لا يشعر الإنسان إنّ الأخلاق لا تُبنى بالوصايا وحدها لأن الوصايا تُخاطب العقل … أما الأدب فيُخاطب القلب وما يصل إلى القلب هو الذي يدوم ويُغيّر
الأدب يجعل القارئ يعيش التجربة قبل أن يقع فيها ويرى عواقب السلوك قبل أن يُقدِم عليه فيتشكّل داخله حسٌّ أخلاقيّ لا تزعزعه المغريات ولا تهدمه اللحظات الضعيفة بهذا المعنى يصبح الأدب ضميرًا مُوازيًا يرافق الإنسان يُذكّره بلحظة ويثنيه عن أخرى ويُنبهه لما يغفل عنه
الأخلاق في أدب مي زيادة
في كتاب (بين الجزر والمد) وهو كتاب مقالات وتأملات إنسانية تقول مي زيادة :
( الخُلقُ الحقّ هو ما يبقى ثابتًا حين تنطفئ الأعين التي تراقبنا)
هذه العبارة لا تُقدّم نصيحة مباشرة لكنها تكشف أن جوهر الأخلاق يبدأ من الداخل من المكان الذي لا يصل إليه أحد سوى الإنسان نفسه تُعلّم مي أن السلوك الجميل ليس ما نفعله لنظهر بصورة حسنة بل ما نفعله لأن ضميرنا يطلبه وهكذا يصبح الأدب درسًا في (الاستقامة الداخلية) وهي أعمق بكثير من الاستقامة الظاهرة
إنسانية السلوك عند عبد الوهاب مطاوع في كتابه (أرجوك لا تفهمني بسرعة) وهو كتاب مقالات اجتماعية وأخلاقية – يكتب عبد الوهاب مطاوع :
( ما يخلّفه الإنسان في القلوب أهم مما يتركه في الحياة )
هذه الجملة تُحوّل الأخلاق من سلوك فردي إلى ( أثر ) فالسلوك الحقيقي هو الذي يترك أثرًا مطمئنًا مريحًا دافئًا لا يُثقل قلب أحد ولا يجرح روح أحد وتكمن قيمة الأدب في أنه يوقظ هذا الوعي أن الإنسان ليس وحده وأن كل كلمة أو فعل تمتدّ خارج حدود اللحظة لتلامس حياة غيره وهكذا يتكوّن داخل القارئ شعور بالمسؤولية الأخلاقية من غير وعظ ومن غير تشدد … بل عبر تجربة وجدانية هادئة
القيمة الأخلاقية في أدب يوسف إدريس
في مجموعته القصصية (النداهة) وهي قصص تكشف أعماق المجتمع المصري : يكتب يوسف إدريس :
(حين يخشى الإنسان مواجهة الحقيقة) يصبح الخطأ أثقل من الاعتراف
هذه العبارة ليست درسًا مباشرًا لكنها تُظهر أن الهروب من مواجهة الذات يولّد أخطاء أكبر وأعمق (يوسف إدريس) لا يقول للقارئ : كن صادقًا بل يجعله يرى ما يحدث حين لا يكون الإنسان صادقًا … فيصل القارئ إلى النتيجة بنفسه وهذه هي قوة الأدب الأخلاقية : أنه يجعل الإنسان يشاهد عاقبة السلوك دون أن يُجرّب مرارته بنفسه
كيف يهذّب الأدب السلوك ؟
الأدب يُهذّب السلوك عبر ثلاث طرق أساسية
التقمّص الشعوري : حين يقرأ الإنسان قصة عن شخص مكسور أو مخذول أو مظلوم يتعلّم التعاطف والتعاطف أصل من أصول الأخلاق
كشف العواقب : القصة تُظهر للإنسان كيف يقوده الكذب إلى مأزق والغضب إلى خسارة والرحمة إلى نجاة بذلك يصبح السلوك الأخلاقي اختيارًا واعيًا لا خوفًا من عقاب
مراجعة الذات : الأدب يوقظ أسئلة صامتة هل كنت عادلاً ؟ هل كنت قاسيًا ؟ هل كنت صادقًا مع نفسي ؟ والحياة الأخلاقية تبدأ من هذه الأسئلة
الأدب ليس مرآة فقط بل معلم صامت
الأدب لا يحاكم أحدًا ولا يرفع صوتًا عاليًا لكنه يضع أمام الإنسان صورة واضحة لما كان وما يمكن أن يكون وما يجب أن يكون ومن هنا يصبح الأدب معلّمًا صامتًا لكنه أكثر صدقًا من كثير من الدروس المباشرة
كل قصة يقرؤها الإنسان تكشف جزءًا من داخله كل شخصية يلتقي بها على الورق تمدّه بوعي جديد وكل مشهد يمر أمامه يضيف إلى سلوكه طبقة من الحكمة
الأدب يربّي الضمير قبل أن يُهذّب السلوك وحين ينضج الضمير يستقيم الطريق وحين يستقيم الطريق يصبح الإنسان أكثر رحمة وأبعد عن القسوة وأقرب إلى نفسه وإلى الآخرين الأدب ليس كلامًا مكتوبًا إنه حياة تُعاش بين السطور