بين تونس ولبنان: كيف تعيد الثقافة تشكيل السياسة؟

العلاقة بين الثقافة والسياسة في العالم العربي ليست علاقة عابرة، بل شبكة معقدة من التأثيرات المتبادلة.
في تونس ولبنان، نجد أن الثقافة لم تعد مجرد خلفية هادئة للحياة العامة، بل تحولت إلى قوة تدفع باتجاه التغيير السياسي والاجتماعي.
الفنون، الإعلام الحديث، وتعدد الهويات الثقافية أصبحت اليوم أدوات رئيسية في التعبير عن المواقف وإعادة رسم ملامح النقاش العام.
هذا المقال يسلط الضوء على الطرق التي أعادت بها الثقافة ترتيب المشهد السياسي في البلدين، ويرصد كيف يتفاعل المواطنون مع هذه التحولات وسط تحديات محلية وإقليمية مستمرة.
التشابهات والاختلافات في المشهد الثقافي والسياسي بين تونس ولبنان
رغم أن تونس ولبنان بلدان صغيران من حيث الجغرافيا، إلا أن أثرهما الثقافي يتجاوز حدودهما بفضل انفتاح مجتمعي طويل الأمد وتنوع سكاني واضح.
يجد الزائر لكل منهما مشاهد متقاربة من حيث حب الفن، الإبداع، وحضور المرأة والشباب في الحياة العامة، لكن مع ذلك تظهر خصوصيات عميقة تحكمها عوامل التاريخ والدين والسياسة.
في تونس، لعبت الحركات الشبابية دورًا محوريًا في تجديد الهوية الوطنية منذ الثورة. نشهد مسارح مفتوحة في الشوارع ومعارض للفن المعاصر تنبض بروح النقد الاجتماعي ومحاولات تجاوز المحظور السياسي.
أما لبنان فقد صاغت التعددية الطائفية ملامح الثقافة فيه، فبرزت المهرجانات الموسيقية الضخمة والمبادرات الفنية التي تجمع مواهب من خلفيات متعددة رغم كل الانقسامات. حفلات الجاز والأغاني الفولكلورية تشكل مساحة نادرة لتلاقي الجميع حول لغة الفن والاحتفاء بالحياة رغم الأزمات المتلاحقة.
من الأمثلة اللافتة على تقاطع الحداثة والتقاليد المحلية ظواهر مثل الكازينوهات التونسية التي تعكس جرأة المجتمع على خوض تجارب جديدة دون التخلي عن القيم العائلية والاجتماعية. بينما تمثل مقاهي بيروت وأنديتها الليلية صورة أخرى لهذا المزج بين الانفتاح والحفاظ على روح المكان والتاريخ.
في النهاية، يبقى المشهد الثقافي والسياسي في البلدين مرآة للبحث المستمر عن توازن بين الأصالة والانفتاح، وبين الانتماء المحلي والطموحات العالمية.
دور الفنون والإبداع في تحريك الوعي السياسي
في تونس ولبنان، لم تعد الفنون مجرد وسيلة للترفيه أو حفظ التراث الشعبي.
اليوم، أصبحت المسرحيات، الموسيقى، والأفلام المستقلة منصات قوية لطرح الأسئلة الصعبة وتحريك المياه الراكدة سياسياً واجتماعياً.
ما يميز هذا الجيل من الفنانين أنهم لا يخشون كسر القيود أو تحدي الخطوط الحمراء في قضايا مثل الحريات الفردية، الفساد، أو الهوية الوطنية.
لاحظتُ كيف صار الجمهور العربي يتابع هذه الأعمال بشغف ويناقش مضامينها على المقاهي والمنصات الرقمية، وكأنها مرآة تعكس واقعه وأحلامه.
وهذا التفاعل بين الإبداع والمتلقي أطلق نقاشات جديدة حول مفهوم المواطنة والمسؤولية الجماعية في ظل المتغيرات السياسية المتسارعة بالمنطقة.
المسرح كمنصة للنقد الاجتماعي والسياسي
لطالما احتفظ المسرح بقيمته كمساحة حرة لقول ما لا يُقال صراحة في الإعلام أو الشارع السياسي.
في تونس بعد الثورة، شهدنا عروضًا جريئة كسرت التابوهات وسلطت الضوء على ملفات مثل الاستبداد والرشوة وحتى قضايا الهوية الجنسية والدينية.
وفي بيروت أيضاً أصبح المسرح مكاناً مفتوحاً للتساؤل والسخرية من السلطة وانتقاد الطائفية والهجرة القسرية.
أحد الأمثلة البارزة عرض "خوف" الذي ناقش هواجس اللبنانيين اليومية دون خطوط حمراء وأعاد للمسرح صداه الثوري المعروف منذ السبعينيات.
الموسيقى والثورة: من الراب إلى الأغاني التراثية
لم يعد المشهد الموسيقي حكراً على الأغاني الكلاسيكية فقط بل دخلت أنماط مثل الراب لتوثق غضب الشارع وتطلعاته كما حدث خلال احتجاجات تونس 2011 ولبنان 2019.
كانت كلمات مغنيين مثل "بلطي" و"الراس" تلتقط نبض الشباب وتنقل همومهم من ساحات الاعتصام إلى ملايين المستمعين عبر الإنترنت والراديو المحلي.
حتى الأغاني التراثية جرى توظيفها بشكل جديد فتداخلت مع موسيقى حديثة لإعادة بث رسائل المقاومة والتمسك بالهوية أمام موجات التغيير السريعة.
السينما المستقلة وصناعة الرأي العام
شهدت السنوات الأخيرة ظهور موجة أفلام وثائقية وروائية تناولت مواضيع كانت حتى وقت قريب تعتبر من المحظورات السياسية والاجتماعية في تونس ولبنان.
أعمال مثل "على كف عفريت" و"بيروت الغربية" سلطت الضوء على معاناة الأفراد وسط الأزمات الاقتصادية والانقسامات الحادة، وربطت القصص الشخصية بالقضايا الكبرى التي تشغل المجتمع بأكمله.
هذه السينما خلقت نقاشًا عامًا وأجبرت المشاهد على التفكير خارج قوالب الإعلام التقليدي وأجندته الضيقة، لتصبح أداة فعالة لتغيير الآراء والمواقف حيال السلطة والمجتمع في آن واحد.
الإعلام الرقمي وشبكات التواصل: كيف غيرت قواعد اللعبة السياسية والثقافية
لم يعد المواطن في تونس أو لبنان مجرد متلقٍ للأخبار، بل أصبح فاعلاً في تشكيل الخطاب العام بفضل الإعلام الرقمي.
منصات مثل فيسبوك، إنستغرام، وتويتر تحولت إلى ساحات نقاش تتفاعل فيها الآراء حول قضايا الساعة، وتُكسر من خلالها الحواجز بين السياسيين والجمهور.
هذا التغيير أتاح مساحة أكبر للتنوع والتجريب، حيث أصبح بإمكان الشباب والمبدعين إيصال صوتهم بلا رقابة مشددة أو وسطاء تقليديين.
لاحظت خلال السنوات الأخيرة أن مواضيع كانت تُعد "محظورة" أو هامشية صارت اليوم محور حوار عام، بفضل الحملات الرقمية والنشطاء الجدد على الإنترنت.
النشطاء الرقميون وصناعة الرأي العام
في كل من تونس ولبنان، لعب المؤثرون والمدونون دورًا محوريًا في توسيع دائرة النقاش السياسي خارج إطار الإعلام التقليدي.
هؤلاء النشطاء غالبًا ما يطرحون موضوعات جريئة حول الفساد، الحريات الفردية، وقضايا الهوية الوطنية بطريقة أقرب للناس وأكثر شفافية من الخطاب الرسمي.
أتابع شخصيًا كيف يتحول منشور واحد أو بث مباشر إلى نقطة انطلاق لجدل واسع يفرض نفسه حتى على نشرات الأخبار التقليدية والبرامج الحوارية.
هذه الديناميكية الجديدة قلبت معادلة التأثير وأجبرت النخب السياسية على التعامل مع مطالب وقضايا لم تكن مطروحة سابقًا بهذا الزخم الشعبي.
الهاشتاغات والحملات الافتراضية
لم تعد الحملات الافتراضية مجرد ظاهرة شبابية عابرة. اليوم تستخدم كأدوات ضغط فعالة على صناع القرار ووسيلة لنشر الوعي بقضايا محلية وإقليمية معقدة.
#مانيش_مسامح في تونس مثلًا كان أكثر من مجرد شعار؛ صار تجمعًا رقميًا للمطالبين بالشفافية والمحاسبة. وفي لبنان، انتقلت حملات مثل #كلن_يعني_كلن من الشارع إلى العالم الافتراضي لتوحّد صوت الغضب الشعبي.
ما لاحظته أن هذه الوسائل تمنح الأفراد شعورًا بالقوة والانتماء لجماعة ذات هدف مشترك. الهشتاغ لا يجمع فقط الأصوات؛ بل يصنع حدثًا سياسيًا واجتماعيًا موازيًا يحظى بمتابعة إقليمية ودولية.
نصيحة عملية: إذا كنت تتابع المشهد عن قرب، ستدرك أن فهم "الموجة الرقمية" صار ضرورة لأي مسؤول أو ناشط يسعى للتأثير الحقيقي اليوم.
الهوية الثقافية وصراعات الانتماء في ظل التحولات السياسية
في تونس ولبنان، لا تزال مسألة الهوية الثقافية حاضرة بقوة في النقاشات اليومية، خاصة مع سرعة التحولات السياسية التي تشهدها المنطقة.
كل مجتمع يسعى للحفاظ على أصالته، لكنه يواجه تحديات كبيرة أمام موجات الانفتاح والعولمة التي تفرض مفاهيم جديدة للانتماء الفردي والجماعي.
التوترات الطائفية والسياسية تظهر بوضوح في الفضاء العام، وتنعكس على اختيارات الأفراد وحتى لغة الخطاب في الإعلام والمنصات الرقمية.
التجربة اللبنانية كشفت هشاشة التوازن بين الطوائف حين تتحول الهوية إلى أداة للصراع بدل أن تكون وسيلة للتلاقي.
أما تونس، فشهدت تحولات اجتماعية عميقة بعد الثورة، حيث تزايد الجدل حول العلاقة بين الموروث الديني والتوجهات الحداثية، خصوصًا وسط جيل شاب يبحث عن معنى جديد للانتماء.
الثقافة كجسر بين الطوائف والتيارات السياسية
رغم صعوبة الظروف، برهنت الفعاليات الثقافية والفنية أنها قادرة على بناء جسور من التفاهم بين أطياف المجتمع المختلفة في تونس ولبنان.
المهرجانات السينمائية والموسيقية تُقام غالبًا بمشاركة فنانين من خلفيات متنوعة، ما يخلق مساحة للحوار بعيدًا عن الاستقطاب السياسي أو الديني.
في بيروت مثلًا، يشكّل حضور جمهور متنوع في الأمسيات الفنية لحظة نادرة يشعر فيها الجميع بأنهم جزء من مشهد واحد لا تفرّقهم الهويات الضيقة.
هذا النوع من الفعاليات يمنح المشاركين فرصة لإعادة اكتشاف الآخر وتجاوز الصور النمطية المتبادلة.
التحديات أمام الشباب في بناء هوية معاصرة
الشباب اليوم يعيشون حالة شد وجذب بين قيم الأسرة التقليدية وضغط الثقافة الرقمية العالمية التي تدخل تفاصيل حياتهم اليومية.
في تونس ولبنان معًا، يشعر الكثيرون بالحيرة عند محاولة صياغة انتماء يعبر عن ذواتهم دون الاصطدام بقوالب جاهزة فرضها المجتمع أو السياسة.
تجد شابات وشبان كثيرون أنفسهم أمام مفترق طرق: إما الانغلاق دفاعًا عن الهوية المحلية أو الذوبان في تيارات العولمة بلا جذور واضحة.
لهذا أصبحت الثقافة المعاصرة—من المسرح البديل إلى حملات النقاش الرقمي—منصة للتعبير عن طموحات جيل جديد يسعى لكتابة قصة انتمائه بحرية ومسؤولية.
خاتمة: آفاق العلاقة بين الثقافة والسياسة في تونس ولبنان
الثقافة في تونس ولبنان أثبتت أنها ليست مجرد مظهر من مظاهر الحياة اليومية، بل أصبحت أداة رئيسية لتحفيز التغيير السياسي والاجتماعي.
رغم التحديات المتصاعدة، تواصل الفنون والإعلام رسم ملامح مجتمع أكثر انفتاحًا وحوارًا، مع تمسك فريد بقيم الحرية والاختلاف.
المستقبل يبدو واعدًا لمن يؤمن بأن حماية حرية التعبير ودعم المبادرات الثقافية المستقلة هما أساس بناء مجتمع متنوع وواعٍ بقضاياه.
الرهان الحقيقي هو تحويل هذا الوعي الثقافي إلى حركة دائمة تدفع نحو مزيد من العدالة والتعدد والتعايش في تونس ولبنان.