الإثنين 29 أبريل 2024 مـ 06:11 صـ 20 شوال 1445 هـ
جريدة النور
نادي النصر الرياضي
نادي النصر الرياضي
رئيس التحرير محمد حلمي

”من رواية ”جبل التيه”

ذهب خالد والسيد إلى العين، نزع خالد قميصه ثم جلس قرب

العين، وتلا عليه السيد العهد، أضاءت الخريطة النجمية على ظهر خالد، وظهر بالعين صورة الفتاة التي كان قد وصفها عَلَم، الفتاة مشدودة الوثاق داخل سائل في الأرض الثانية.

قال السيد: إنها المفتاح.. يجب أن أحررها، عليَّ أن آتي بها إلى غرفة الخلاص حيث أحجية الألف حرف.

أجابت العين: إن المسافر هو من يجب أن يذهب إلى أرض الظلمات، هو وحده من يملك تحريرها،

هدأت العين ووقف خالد الذي شعر بأن جلده كان يحترق، وحاول تلمس فقراته يتفقد مصدر الألم المفاجئ فلم يجد شيئًا فارتدي قميصه.. وقال: دعني أذهب إلى هناك أيها السيد.

أجابه السيد: الأمر ليس بتلك السهولة يا خالد، أرض ليليث هي الجحيم، لا أستطيع حمايتك هناك، عليَّ أن أدرس الأمر وأبحثه جيدًا، فذهابك وحدك هلاك محتوم لنا جميعًا إن سقطت بين براثن ليليث، ما من نجاة لنا.

ابتسم خالد للسيد الذي بدا جادًّا للغاية وهمس: أيها السيد، أتيت من العام ألفين وتسعة عشر، وصل فيه سكان الكرة الأرضية ما يقارب الثمانية مليار نسمة، وهذا عدد مهول جدًّا، لكن توزيع الأعداد والثروات على هذه الأعداد شيء هزلي للغاية، فهناك بلد تجد عدد سكانها لا يزيد عن المليون وتملك ثروات تكفي مئة مليون، وهناك بلد تخطى عدد سكانها المئة مليون يتحكم في

ثرواتها عشرة آلاف، وباقي شعبها بالكاد يعيش، وبلدان بلغت من التطور العلمي والتكنولوجي والثروات والقوة العسكرية والسطوة السياسية ما تحكم به العالم وتتحكم في مقدرات الشعوب، أصبح هناك ما يسمى بالحروب الجرثومية والحروب الكيميائية والنووية وتهجين لنوعيات وسلالات جديدة للفيروسات القاتلة، أصبح هناك شعوب بكاملها تُباد لصالح دول تعمل كمافيا للتحكم في العالم، أصبح هناك من البشر أنفسهم منظمات وعلماء ومفكرين يقررون من يجب أن يعيش ومن يجب أن يموت نيابة عن الرب، عبر انتقاء السلالات، أصبح هناك دول تنظم رحلات كونية للسفر للمريخ، وبلدان لا زالت تجد صعوبة في توفير منظومة صحية آدمية لشعوبها، وشعوب تعاني من الفقر والجوع والمرض، ولا أحد يأبه لهم، سوى بعض البلدان والمنظمات التي سخفًا تلفت انتباه العالم لحسها الإنساني، فترسل بعض القوافل الطبية والغذائية التي تنفد بعد شهر أو شهرين أو حتى سنه، ثم يعود الحال لما كان عليه من جديد، شعوب انطلقت وغزت الكون، وشعوب لا زالت تجلس على مساطب العته الفكري تتحدث حول اللباس الشرعي للمرأة وتأثيره على غرائز الرجل، أتيتك من العام ألفين وتسعة عشر بعد انهيار عديد من البلدان وضياع العديد من الشعوب وتشردها وسقوطها في شرك الحروب الأهلية والأطماع السياسية.

صمت خالد لحظة ثم أردف: لا تخشَ شيئًا أيها السيد، إن انتهى بنا جميعًا الأمر هنا، فصدقني هذا أفضل بكثير من أن تعيشوا في العام ألفين وتسعة عشر في وطن يدفعك للانتحار في كل لحظة.

سمعه إسماعيل بتركيز شديد، ثم أردف: ربما حضورك هنا يصلح من الأمر شيئًا، لن أسمح لك بالذهاب إن لم أجد وسيلة لتأمينك، ثم أردف: ألم ترَ عَلَم؟! لم أره طوال اليوم؟

أصاب خالد بعض الارتباك وأجابه: نعم، ذهبنا معًا إلى الوادي لكني عدت أولًا، سيأتي عما قريب، على ما أظن.

- اذهب مع عبد الله القاسم وأبحثا عنه، أخبره بأن يأتي إلى المختبر مباشرة، أريده في أمر مهم.

أجابه خالد بثقل: حسنًا.

لم يكن يخفى على خالد أن السيد يريد الحديث مع عَلَم بخصوص أرض ليليث، وأن يخبره بدقة عن الأراضين وما قد رآه سابقًا عن الممرات والدروب التي سلكها به خدم ليليث، حتى وصل قاعة عرشها، شرد خالد لحظة وأخذ يفكر؛ كيف سيواجه عَلَم بعد ما قاله اليوم! لست جاهزًا لتلك المواجهة الآن!

قطع الصمت صوت السيد: ها قد أتى عبد الله، اذهبا وأتياني بعَلَم، هيا...

تحرك خالد بخطا متثاقلة مع عبد الله متوجهين إلى الوادي ليناديا عَلَم إلى أن وصلا لمخبئه، نزل خالد يتحسس الخطا، فقد أوشكت الشمس على المغيب وهو بالكاد يرى، فوجد عَلَم مكورًا حول ذاته يبكي بحرقة، رفعه خالد من كتفيه وأجلسه أمامه وأرخى رأسه فوق رأسه وربت على كتفه، وقال: هيا، السيد يطلبك.

ساعده على الوقوف متحاشيًا النظر إلى عينيه، حين تسلل لأذنيهما صوت عبد الله: هل وجدته أيها المسافر؟

أجابه: نعم وجدته، نحن في طريقنا إليك.

خرجا من المخبأ وانطلقا يتوسطهما عبد الله، متفادين الحديث أو النظر لبعضهما، حتى وصلا إلى الجبل، أخبر عبد الله عَلَم بأن السيد ينتظره في المختبر، لكن حالة الشحوب وعدم الاتزان التي بدت واضحة على عَلَم جعلت عبد الله يحمل رسالته إلى السيد بأن يعذره، فهو مريض نوعًا ما، وفي الصباح سيذهب إليه، كما جعله أيضا يعد له مشروبًا دافئًا من الحليب المنكَّه بالعسل واللوز علَّه يساعده على النوم ويمنحه بعض الطاقة.

ذهب عَلَم وخالد إلى غرفتيهما متفاديين الحديث أو المزاح أو التلامس، بدا الأمر معقدًا جدًّا بينهما، الأمر الذي استاء منه كلاهما جدًّا، وجعل عَلَم يشعر بالندم الحقيقي لأنه صارح خالد بما يدور في نفسه وبما يشعر به تجاهه.

في الصباح خرج كل منهما متوجهان إلى المختبر دون أن ينتظر أحدهما الآخر، ذهب خالد بعد ليلة عصيبة من التفكير والشعور بالعجز الكامل تجاه ما طرأ من تغيير على علاقته بعَلَم، والتي ستجعله يشعر بوحدة حقيقية هنا، وصل إلى المختبر فوجد عَلَم والسيد هناك يعملان على رسم خريطة دقيقة لدروب أراضين ليليث التي سلكها به خدمها من قبل، كان كلاهما منهمك في العمل حتى إنهما لم يشعرا بخالد عند قدومه إلا بعد أن ألقى عليهما السلام، رد عليه السيد وهو لا زال ينظر إلى خريطته: مرحبًا خالد، تفضل بالجلوس.

نظر إلى عَلَم الذي لم يرد عليه السلام ولم يلتفت له، وبقي عاكفًا على عمله بكل ثبات ورباطة جأش.

قال السيد موجهًا نظره إلى خالد: أحضرت لك الخيوط التي أردتها، سيأتي عبد الله وبعض الأفراد، سيذهبون معك لمساعدتك..

أجابه خالد: حسنًا، سأذهب بالخيوط، وعندما يأتي عبد الله وصحبته أرسلهم لي بالممر.