السبت 22 نوفمبر 2025 12:51 مـ 1 جمادى آخر 1447 هـ
بوابة النور الاخبارية
رئيس التحرير محمد حلمي
×

أصوات لا تصل

السبت 22 نوفمبر 2025 01:46 صـ 30 جمادى أول 1447 هـ
أصوات لا تصل

في صباحٍ مزدحمٍ كالعادة، جلس كريم في الميكروباص، ينظر من نافذته إلى الأرصفة التي تتغير أسرع من أحلام الناس. كان يحمل حقيبته القديمة وملفًا فيه طلب وظيفة… الطلب ذاته الذي يقدّمه منذ ثلاثة أشهر بلا رد. كان يشعر أن الحياة أصبحت مثل رقم خدمة العملاء… يرنّ طويلًا، ولا أحد يجيب.

على الطريق الدائري، التقط عينيه مشهدًا لم ينتبه إليه من قبل. رجلٌ خمسيني يقف أمام محل صغير، يرفع باب المحل المعدني ببطء، ولكن داخله كان فارغًا تمامًا… كأن الحياة خرجت منه قبل البضاعة. وضع الرجل كرسيًا بلاستيكيا على الباب، جلس، وراح يمرر أصابعه فوق السبحة. لم يفتح فمه بكلمة، وكأن الصمت وحده صار مهنته.

تساءل كريم في نفسه:

"هل هناك أصوات لا تصل… مهما حاولنا؟"

تذكّر صديقًا له كان يقول دائمًا:

"المشكلة ليست أننا لا نصرخ… المشكلة أن العالم أصبح يضع سماعات في أذنيه".

حين وصل كريم إلى الشركة التي تقدّم لها، قالوا له كالمرات الماضية:

"سيتم التواصل معك قريبًا."

جملة محفوظة، بلا روح، بلا نيّة… بلا حتى مُجاملة حقيقية.

خرج، وأخذ يمشي على الرصيف.

مرّ بصاحبة كشك اعتادت أن تبتسم له كلما اشترى ماءً بارداً. اليوم وجدها تجادل مورّد السلع. كانت تقول بصوت متوتر:

"يا ابني… قلبي مش مستحمل زيادة الأسعار يوميًا. هنعيش إزاي؟"

سمع كلماتها، فشعر أن صوتها… يشبه صوته.

كلاهما يصرخ، ولكن لا أحد يسمع.

جلس على مقعد في الشارع، وأخذ يكتب على ورقة صغيرة كانت في جيبه:

"نحن لا نحتاج لمن يجيب… نحن نحتاج لمن يصغي".

توقف للحظة.

فكّر: ربما المشكلة ليست أن العالم لا يسمع، بل أن الناس تعوّدت أن تخفي أصواتها الحقيقية خلف كلمة "ماشي… عادي… كله تمام".

عاد كريم إلى بيته، وجد أمه تجهّز الغداء.

قالت بابتسامة دافئة رغم تعبها:

"مالك يا كريم؟ شكلك مهموم".

رفع رأسه، نظر إليها، ثم قال لأول مرة منذ شهور:

"تعبان يا أمي… مش بخير".

فتركت كل شيء، وجلست أمامه.

وفجأة… شعر أن شيئًا وقع في مكانه الصحيح.

كان صوته يصل. أخيرًا.

بـقلم/ آلاء أشــرف

باحثة دكتوراه البلاغة والنقد الأدبي والأدب المُقارن – كلية دار العلوم – جامعة القاهرة

حاصلة على المركز الثاني (رواية) بمُسابقة المواهب الأدبيّة 2024م المُقدمة من المجلس الأعلى للثقافة.