أحذيــة مثقـوبــة
أستيقظ كل صباح، وأفكر في الطريق قبل العمل أكثر مما أفكر في العمل ذاته. الطريق الذي يلتهم من عمري أكثر مما يلتهمه العمل، الطريق الذي يلتهم الحذاء قبل أن يلتهمني. الحذاء مثلي تمامًا؛ يمشي ولا يسأل، يتهالك ولا يشتكي، حتى إذا أرهقه السير، ظلّ صامتًا تحت قدمي. أضع قدمي في حذاء مثقوب، وأشعر كأنني أضعها في ذاكرة؛ ذاكرةٌ من التراب والحفر والعرق، ذاكرة تعرف أسراري أكثر مما أعرفها أنا. كل خُطوة فيه حكاية: صباح مزدحم، رصيف مهشّم، محطة أتوبيس مزدحمة، موظفون يركضون للحاق بحياتهم، وأنا بينهم أبحث عن حياة أخرى.
اعتدتُ دومًا على الاحتفاظ بأحذيتي أكبر وقت ممكن من الزمن، وكأنما فعلٌ غريب على القارئ الآن، ولكن قلبي يريد الإفصاح عمّا بداخله في تلك اللحظة. أحذية قدمي البالية أهم عندي من جديدها؛ تعبّر لي دائمًا عن الذكرى، عن الأماكن والشوارع والمواقف، حتى غضبي في وقت ما؛ وأنا واقعة في ورطةٍ في الخارج ترتبك لها أصابع قدمي داخل حذائها!
حذائي صديقٌ وفيّ؛ أختاره أنا بعناية شديدة جدًا، لا يُفصح أبدًا عن رحلة سيره معي، ولا يعترض على ما وحل به! ويسير يسير يسير أينما كنت؛ لا يكف عن السير إلا إذا أمرته قدمي بالتوقف، لا يهلك حتى يشيب عمره وحتى إذا مرض تقبّل العلاج وأكمل سيره؛ لا يستغنى أبدًا، فأنا دائمًا المستغني إذا تحتم الأمر، وكأنما تعاهدنا على السير معًا.
أنا شخصٌ وفيٌّ للأماكن، وفيٌّ بما رأته معي تلك الجمادات، وبما سمعت من مارّيها عن فرحةٍ ما لأحد، أو جريمة ارتكبها آخر، أو شكوى سرية لابن آدم من حياته في كلمات متمتمة أستغفر بعدها ربه! وفيٌّ لوفائها؛ إذا جلسنا سويًا تحدثنا معًا عن تلك الأيام الماضية وتذكرت معي نفسي في هدوء تام. أهيم في ذكرى الجدران وأسمع أنينها ونحيبها، أقع في غرام تلك المباني القديمة العجوز برائحة عتيقها؛ وأتمنى لو أن صوتها تستطيع أذناي التعرف عليه لكي أسمع سرد أحاديثها وقصص السابقين. لديّ دائمًا إحساس بأن ما بداخلي متبادل مع كل طريق مررتُ به، إحساس بأن الاشتياق بيننا من كلا الطرفين.
كلما نظرت إلى حذائي المثقوب شعرت أن العمر يُقاس بعدد الثقوب لا بعدد السنوات، وأن كل طريق قطعته أضاف إلى ثقوبه خطًا جديدًا في وجهي. الحذاء مثقوب لكنّه وفيّ، وأنا مثقوب لكنّي أمشي. أمشي حتى يشيخ الحذاء، وحتى أشعر أن الطريق نفسه صار شيخًا يتكئ عليّ.
أحاول أن أكتب قصيدةً عن هذا الحذاء، فلا أجد الكلمات إلا وهي تخرج مثقوبة مثله، أحاول أن أصرخ فلا يخرج الصوت إلّا مكتومًا. يبدو أن الطريق لا يريد قصائدنا، الطريق يريد أقدامنا فقط، والأحذية لا تريد الشِعر بل تريد المشي، وأنا بينهما أكتب كي أتنفس، وأتنفس كي أمشي!!
ولستُ أدري متى بدأت علاقتي مع الطرق تتحوّل من مجرد عبور يومي إلى نوع من التعايش الإجباري بيني وبين الحياة. الطريق ليس مجرد مسار من نقطة إلى أخرى، الطريق امتحان يومي؛ يسألني فيه الرصيف عن صبري، وتسألني الحفر عن قدرتي على التحمل، وتسألني الإشارات عن مهارتي في انتظار ما لا يأتي بسرعة. في الطريق تعلّمت أن العمر ليس ما يُكتب في البطاقة، بل ما تتركه الشوارع على الروح من خدوش صغيرة، وما تسرقه من الوقت بلا اعتذار، وما تمنحه أحيانًا من خلاص مؤقت حين تعلّمني أن أواصل السير مهما كان التعب.
أمشي بين الناس وكل يحمل حذاءه بطريقته؛ هناك من يمشي بثقة كأن الأرض مدينة له، وهناك من يجرّ قدميه كأن كل خطوة دينٌ يؤجله، وهناك من يخطو بخفة خوفًا من أن تُحدث قدماه ضجيجًا يعكر مزاج العالم من حوله. أما أنا، فأمشي كمن يفتش عن شيء فُقد منذ زمن بعيد، ربما معنى بسيط للحياة، أو لحظة دفء، أو كلمة طيبة، أو حتى ظلّ لفتاة كنت أعرفها ونسيتها قبل أن أفهمها.
وإلى جانب كل هذا، يبقى الحذاء المثقوب شاهدًا على تفاصيل صغيرة جدًا؛ تلك الوقفات التي أقفها أمام محلّ مغلق، أو تلك اللحظات التي أتردد فيها قبل أن أقطع شارعًا مزدحمًا، أو ذلك التعب الذي يهاجمني فجأة في منتصف الطريق فأقف دقيقة لأجمع نفسي من جديد. لا أحد يلاحظ هذه الأشياء، لكن الحذاء يشعر بها، يحفظها داخل ثقوبه كأنها رسائل مطوية لا يقرأها غيري.
تذكرت مرة أنّ أحدهم قال لي إن الإنسان يُعرَف من خطواته، من طريقة مشيته، من الصوت الذي يحدثه احتكاك الحذاء بالأرض. ربما لهذا السبب يخيفني صمتُ الحذاء المثقوب؛ لأنه لا يصدر صوتًا كافياً يعبر عني، وكأنه يتواطأ مع الحياة كي أبقى في الظلّ، أمشي دون أن يلتفت أحد. لكنّني أحب هذا الصمت، فهو يشبهني، يشبه تلك الأيام التي مررت بها دون أن يشعر بي أحد، ويشبه تلك الدموع التي ذهبت معي ولم يعرفها أحد.
ومع ذلك، أحيانًا أشعر بأن الحذاء يكلمني. نعم، يهمس لي بصوت لا يسمعه غيري، يقول لي: “امشِ… ما زال في الطريق متسعٌ لك، وما زالت قدماك قادرتين.” وكأن الحذاء يعرف أنني أتعب، وأن الطريق يطول، وأن قلبي أيضًا مثقوب مثل جلده، لكنه رغم ثقوبه ما زال يخفق.
ربما لهذا بالضبط أحتفظ بالقديم من الأحذية؛ ليس لأنها رخيصة أو لأنني لا أملك بديلًا، بل لأنها تشبهني وتشبه حياة كثيرين حولي. نحن — مثل أحذيتنا — نُهمل كثيرًا ثم نُستَعمل كثيرًا، ثم نصبح فجأة عبئًا على الطريق. ومع ذلك نستمر. نستمر لأن التوقف أصعب من السير، ولأن الوقوف يعني مواجهة الأشياء التي نهرب منها طوال الطريق.
وأحيانًا أفكر: ماذا لو كان للحذاء ذاكرة دقيقة تحفظ كل خطوة؟ كم من صدماتٍ وخيباتٍ وسرورٍ عابر سيحكي عنها؟ كم مرة اهتزّ حين أسرعت لأنني كنت متأخرة؟ وكم مرة تباطأ معي لأن قلبي كان مكسورًا؟ ربما كان سيذكر أيضًا تلك الأيام التي مشيت فيها بلا هدف، فقط لأغسل روحي من تعبٍ أثقلها، أو لأهرب من فكرة كانت تطاردني.
الطريق علمني شيئًا واحدًا: أن السير عادة، وأن الوقوف قرار، وأن الرجوع أصعب مما يبدو. لذلك حين أرى ثقوب الحذاء تتسع، أبتسم. أعرف أن الثقوب ليست نهاية عمر الحذاء، بل بداية صداقة أعمق معه؛ صداقة تُبنى على التعب المشترك، وعلى الصمت المشترك، وعلى قناعة بأننا — أنا وهو — لسنا بحاجة إلى الكمال لنواصل الطريق.
أحيانًا أشعر أنني أحمل العالم كله على قدميّ. ليس لأنه ثقيل، بل لأنني مررت فوق أجزاء كثيرة منه، رأيت وجوهًا، وسمعت قصصًا، وتلمّست وجعًا، وأدركت أن الحياة أكبر من أن تفهمها في جلسة واحدة. الطريق مدرسة صامتة. لا تشرح ولا تقدم دروسًا، لكنها تغيّرنا من الداخل بصمت، كما يغيّر الماء شكل الحجر ببطء دون أن يصرخ.
ولذلك، حين أعود آخر النهار، أخلع حذائي المثقوب، أضعه في ركنٍ صغير قرب الباب، وأشعر أنني لا أخلعه عن قدمي فقط، بل أخلع يومًا كاملًا بما فيه من تعب وضجيج ومشاعر منسية. أقترب منه قليلًا، وكأنني أشكره على يوم آخر مشيناه معًا دون أن نسقط. وأقول في داخلي: غدًا سنمشي من جديد.
وبين كل هذا، يبقى الحذاء المثقوب درسًا صغيرًا في الوفاء. درسًا يقول لي: أن الأشياء التي ترافقك في صمت، هي الأكثر إخلاصًا، وأن التعب الحقيقي ليس في المشي، بل في أن تمشي بلا رفيق. وأنا — مهما طال الطريق — يكفيني أنني لست وحدي… يكفيني أن تحت قدميّ صديقًا قديمًا، يعرفني كما لا يعرفني أحد، ويقبل ثقوبي كما أقبل ثقوبه، ونمضي معًا نحو يومٍ لا أعرف كيف سيبدأ، ولا كيف سينتهي، لكنني أعرف أننا سنمشي… سنمشي مهما كانت الثقوب.
بـقلم/ آلاء أشــرف
كاتبة روائيّة
باحثة دكتوراه بلاغة ونقد أدبي وأدب مُقارن – كلية دار العلوم – جامعة القاهرة
