الأدب… حين يصبح الحبّ معنى ويغدو العطاء رسالة
منذ أن بدأ الإنسان يحاول فهم ذاته كان الأدب هو المجال الذي أودع فيه مشاعره الأكثر صدقًا وأسئلته الأكثر عمقًا ومحاولاته المستمرة للتواصل مع الآخرين وفي قلب هذا العالم الواسع ظلّ الحبّ والعطاء أكثر الموضوعات حضورًا وتأثيرًا لأنهما يكشفان طبيعة الإنسان الداخلية ويمتحنان قدرته على أن يكون رحيمًا وعادلًا ومخلصًا
فالأدب العربي لم يتعامل مع الحبّ بوصفه حالة عاطفية تمرّ وتزول بل تعامل معه كقيمة تخلق الإنسان من جديد الحبّ عند الأدباء ليس خفقة عابرة بل معرفة تتكوّن في القلب أولًا ثم تمتدّ إلى العقل والسلوك ولذلك قال توفيق الحكيم في كتابه ( عودة الروح )
( ليس في الحبّ شيء اسمه قليل… فكلُّ حبٍّ هو كثير )
هذه العبارة تكشف رؤية الحكيم للحبّ باعتباره فعلًا كاملًا لا يقبل التجزئة وأنه لا يُقاس بالمظاهر بل بالقدرة على التأثير في الروح وتوجيهها نحو النقاء
وإلى جانب الحبّ يضع الأدب قيمة أخرى لا تقلّ أهمية وهي العطاء فلا معنى للحبّ الذي لا يتحوّل إلى فعل ولا قيمة للمشاعر التي لا تترك أثرًا في حياة الآخرين وهنا يظهر صوت أحمد شوقي واضحًا في ديوانه ( الشوقيات ) حين يقول
( أحسنْ إلى الناسِ تستعبدْ قلوبهمُ… فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ )
فالعطاء عند شوقي ليس ماديًا فقط بل هو ابتسامة كلمة مشاركة وجدانية أو يد تُمدّ في وقت الحاجة ويذكّر بأن الإنسان لا يترك في الحياة إلا الأثر الطيّب وأن الإحسان وحده هو الذي يخلّد الذكر
أما يوسف السباعي صاحب الأسلوب الرومانسي الإنساني فقد قدّم فهمًا أكثر قربًا من القلب لمعنى العطاء فقال في كتابه ( في سبيل الحرية )
( الحب إن لم يكن عطاء… فلا معنى له )
بهذا القول يضع السباعي شرطًا أساسيًا للحبّ الحقيقي أن يتحوّل إلى فعل وأن يتحمّل الإنسان مسؤولية حضوره في حياة من يحبّ فالحبّ الذي لا يمنح ولا يَسند ولا يخفّف يتحوّل إلى وهم لا يغيّر شيئًا
وعند جمع هذه الرؤى المختلفة للأدباء الثلاثة نكتشف أن الأدب العربي قدّم صورة شاملة للحبّ والعطاء
الحبّ هو النية
والعطاء هو الفعل
الحبّ شعور
والعطاء هو الصورة التي يظهر بها هذا الشعور في الواقع
والأدب نفسه مثال على ذلك فكل نصّ كتبه صاحبه بصدق هو شكل من أشكال العطاء الكاتب حين يكتب يمنح القارئ جزءًا من روحه ويتيح له فرصة الدخول إلى عالم لم يكن ليعرفه لولا الكلمة والقارئ حين يجد نفسه في جملة أو سطر يشعر بأن هناك من يفهمه ويشاركه ما كان يظنه شأنًا خاصًا به وهذا في حد ذاته نوع من الحبّ الإنساني الصامت
كما يعلّم الأدب أن العطاء لا يكون دائمًا نتيجة وفرة بل قد يكون أصدق ما يكون حين يُقدَّم من قلب متعب أو روح جريحة بعض الكتب ليست مجرد أعمال أدبية بل شهادات على قدرة الإنسان على أن يمنح رغم الألم وأن يكتب رغم الخسارة وأن يحبّ رغم الخيبة
وفي النهاية يبقى الأدب مدرسة يتعلّم فيها الإنسان أن الحبّ هو بداية تذكّر إنسانيته وأن العطاء هو اكتمال هذه الإنسانية فلا يبقى من حياة الإنسان إلا مشاعره التي زرعها في قلوب الآخرين وكلماته التي تُبقي أثره حيًّا بعد رحيله وهكذا يتجلّى الأدب شاهدًا على أن الإنسان لا يُقاس بعمره ولا بما يملك بل بما أحبّ وبما أعطى وبما تركه من نور في طريق الآخرين
