الأحد 28 أبريل 2024 مـ 11:53 صـ 19 شوال 1445 هـ
جريدة النور
نادي النصر الرياضي
نادي النصر الرياضي
رئيس التحرير محمد حلمي

ماتت أمى

بالطبع خبر الوفاة إما أن يكون خبر قاسى ومحزن أو قد يكون خبر عادى عند بعض المحيطين خصوصا لو كانت المتوفية جاوزت من العمر الكثير ثم فاضت روحها ، وقد تكون ظروف الوفاة بسبب أمراض الشيخوخة والعجز ، أو أى سبب آخر وأيا كانت الأسباب علينا أن نستوعب ونتحمل الحقيقة المؤلمة والنتيجة الصادقة وهو الموت الفاجع والفراق الدائم . والآن وبعد وقتا من وفاة أمى رحت أتأمل ولأول مرة رحلة صمودها وتحملها وقدرتها اللامحدودة على تحمل عبأ لايتحمله إلا هذا الجيل والذى غادر أكثرهم ورحل ولم يترك لنا إلا دروس كثيرة يصعب استيعابها أو تكرارها خصوصا فيما يخص العمل الشاق بلا أجر والعطاء المطلق بلا مقابل . أمى هى المرأة البسيطة التى تزوجت تحديدا منذ ستين عاما لم تنل حظا ولو قليلا من السعادة أو الراحة ولم يراودها أو يخطر ببالها حتى معنى الأمل أو رفاهية الطموح أو حتى انتظار الغد الأفضل. أمى لم يكن لديها ثقافة الرأى المخالف أو المواجهة بل عانت وحدها تقاليد السلطة المطلقة للزوج من جهة وبساطة الحياة وشحها من جهة وتقبل الأمر الواقع واستمراريته بمنتهى الرضا والثبات من جهة، ومع ذلك وبعيدا عن بداءة وتخلف وقسوة الحياة نجد انعدام ثقافة تنظيم أو تحديد النسل لتضيف ثمانية أفراد على كاهل أمى بهموم ومسئوليات وتبعات تنأى بها الجبال حيث وجدت نفسها مطالبة كل عام تقريبا بطرح مولود جديد يخرج على يد "الداية" في الغرفة المغلقة والتي كنا ننتظر وننصت خارجها جيدا لسماع صرخات المولود الجديد لنبدأ معه عد السبعة أيام ايذانا لبدء مراسم "السبوع" ومايلزمه من تفاصيل كثيرة تتقبلها رغما عنها أمهاتنا النفساء ومع ذلك تلتزم وتتحمل تبعات تلك المراسم الصعبة لاستقبال الوافد الجديد . هكذا كانت حياة أمهاتنا .. كفاح وعمل وتحمل ومسئوليات عظيمة إلى جانب تدبير اقتصادى محكم لأى رقم يخص الدخل المادى للزوج مع قدرة فائقة على الإنفاق الواعى لمواجهة أهم متطلبات الحياة بأقل الإمكانيات المتاحة آنذاك . وهكذا وبصرف النظر عن باقى التفاصيل الصعبة سارت الحياة وامتدت وتوالت الأيام وتعاقبت السنين وقد سرقها الزمن وتزوج الأبناء ومات الزوج الكادح بعد مرض أقعده وكبرت أمى لتبدأ رحلة جديدة من المعاناة بسبب الوحدة والفراغ وأمراض الشيخوخة وأصبحت هى من تحتاج الخدمة والرعاية الصحية والاهتمام ، ثم بدأت رحلة البحث عن تحقيق تلك الاحتياجات الملحة والمهمة ، فعاشت وقتا مع الإبنة الوسطى وآخر مع الصغيرة يتخللها رعاية ابنتها الكبيرة رغم ظروفها المرضية وأخيرا عادت للصغيرة واستمرت معها حتى وافتها المنية. وهكذا نامت وارتاحت واستقرت على سريرها الصغير وصعدت روحها بهدوء وسلام بعد رحلة طويلة من المعاناة والتحمل . ماتت أمى قبل يومين من وقفة عرفات الأخيرة وفاضت روحها الغالية ببساطة ويسر وفى دقائق معدودة لتصعد إلى بارئها ولسان حالها يقول لنا : تحملت ثقل تربيتكم وتعليمكم ومتطلباتكم بسعادة طيلة عمرى بلا تقصير أو تهاون والآن لن أثقل عليكم لأنى أحبكم ولن أسمح ان أكون ضيفا ثقيلا كثيرا أو عبئا صعبا حتى لو رغبتم، والآن أودعكم وأترككم بعد تمام رسالتى واطمئنانى وانا راضية محبة، غسلونى ودعونى فأنا الأن أكثر شبابا وجمالا وانطلاقا الى عالم فسيح لاتدركه الأبصار أو تستوعبه العقول ولن يخطر جماله على قلوبكم أيها الأحياء . رحمك الله ياأمى وغفر لك وأنار قبرك وعزائنا فيكى هو ادراكنا وإيماننا اللامنتهى من عدل الخالق ورحمته وطمعا فى كرمه وجزاءه لك بالثواب المقدر وألأجر العظيم. كنتى الزوجة والأم والملاك الذى لم ينتظر شكر أو جائزة فى الدنيا.. كنتى الأم الصابرة عاشقة العذاب بلا شكوى أو كلل لإسعاد أبنائك وراحة زوجك أكثر من نصف قرن فأحبك الله بأن توفاك فى نهاية العشر الأوائل المباركة من ذي الحجة بلا مرض يؤلمك ولاسكرات موت تصعب صعود روحك الغالية. ماتت أمى وهى مطمئنة واثقة فى رحمة وعدل الخالق ووعد نبينا بأن الجنة ستظل دائما وأبدا تحت أقدام الأمهات الصابرات بلا أمل أو رجاء الا حسن ثواب الآخرة ودعوات أبنائها وأحبائها الصالحين . "اللهم إن كانت غير أهلاً لوصول رحمتك فرحمتك أهلاً لأن تسعها، اللهم اطعمها من الجنة واسقها من الجنة وأرها مكانها من الجنة واجعل مستقرها في الفردوس الأعلى هى وكل أمهات المسلمين".. آمين.