الأحد 28 أبريل 2024 مـ 12:47 صـ 18 شوال 1445 هـ
جريدة النور
نادي النصر الرياضي
نادي النصر الرياضي
رئيس التحرير محمد حلمي

القناع والظل....ودكتور جيكيل

في الليلة الفائتة خطبتُ ود النوم بصورة ملحة في غير حينه، لا لكي ألقى خيال حبيب كما كان يتمنى مجنون لبنى- قيس بن ذريح، ولكن لكي أهرب من صوت أنفاسي السريعة الصاخبة، وأستريح من نخر السعال لعظام صدري. كنت أريد أن يخمد السعال والزمن معا بالنوم، لكن النوم أبى أن يخمدهما وأدار وجهه عني لأجل غير معلوم. يحدث هذا الأمر منه باطراد كلما شعر بحاجتنا الماسة إليه، شأنه في ذلك شأن أمور كثيرة في الحياة، تتدلل كلما زاد الطلب عليها وكثر من يطلبون ودها. إنه على يقين بأننا نصبر على تأخره وننتظر قدومه وقتما شاء، دون أن نعاتبه أو نثور عليه، لأننا في حضوره نحظى بعفو مؤقت لا بأس به عن ذنوب وعقوبات أثقلت كواهلنا. والنوم هو الحالة التي تتوق النفس لبلوغها، هربا من الدنيا أو خروجا منها لنسيان كل فرح أو حزن كما ذكر ابن حزم الأندلسي في كتابه "رسالة في مداواة النفوس"، وهو كما وصفه "فرانز كافكا" أكثر المخلوقات براءة، بينما أكثرهم ذنوبا هم أولئك الذين يعاقبهم النوم ويجافيهم. وهو حين يجافينا لا يكف عن معاقبتنا حين يحيلنا إلى التفكير في واقعنا البائس المأزوم بمكاشفة لا تعرف المواربة، أو يدفعنا إلى الهروب منه واللجوء لأحلام اليقظة. لكن حتى وإن صالحنا النوم على الدنيا وأخرجنا منها، أليس من الوارد أن تباغتنا الأحلام، وقد توقظ جوانب اللاوعي السلبي فينا، أو تكشف لنا عن حقائق نفسية مكبوتة، وقد تمنحنا نبوءات صادقة نستشف بها المستقبل القريب أو البعيد وتسوقنا سوقا نحو تحقيقها. يمكنني أن أحيل كل ما سبق إلى مجموعة من التصورات والمفاهيم المعقدة التي وثبت إلى ذهني، وتمخض تمكنها مني عن رحلة جديدة لعالَم "كارل يونج" الذي عرفته لأول مرة في زيارتي لجامعة بازل السويسرية؛ هذا العالَم الذي يوقظ فينا دائما حقيقة مفادها: أننا نعيش حيواتنا في صراع دائم بين القناع Persona)) وبين الظل ((Shadow. وهو الصراع الذي قد نعيه جيدا إذا ما أدركنا كيف نتصرف وماذا نقول ونحن بين القطيع حيث نتبعه ونمتثل لقوانينه، وكيف نفكر وفيم نفكر ونحن ندير مونولوجا داخليا في حالة العزلة والانصراف إلى الذات من خلال أحلام اليقظة أو الرؤى. هذا الصراع ينطوي على حالة من الاشتباك بين عالمين ومستويين من العقل وهما العقل الواعي المتدثر بالقناع والعقل اللاواعي (الباطن) القابع في الظل في ممر ضيق يقود إلى بئر عميق. إنه الاشتباك الذي يكابده الكاتب مثلا حين تتحرك بداخله النزعة للكتابة في موضوع يبادر به العقل الواعي، وحين يشرع في الكتابة عنه تزاحمه خواطر كامنة في العقل اللاوعي أو في الظل وتنازع عقله الواعي المتدثر بالقناع، وتحاول أن تعريه منه لتفرض سيطرتها وتطفو على السطح؛ عندئذ تصبح روحه المبدعة ساحة معركة مشتعلة بنيران الانفعالات والتوتر. وأحيانا كثيرة يجد نفسه مضطرا لتغيير عدسات نظارة العقل "البارادايم" كي يستطيع أن يفض الاشتباك بين القوتين المتنازعتين بداخله دون أن يخرج خاسرا. كثيرا ما ألمح أيضا في كتابات كثير من المبدعين أفكارا مستلهمة من "الظل" (اللاشعور)، قد أصغَوا إلى وحيها الآني وجعلوها على مهل طوع عقلهم الواعي، حتى تنمحي الحدود والفواصل وتتحرر الذاكرة من تداعيات الشعور واللاشعور؛ وهم يقودون تلك المعركة كي يحسنوا تقديم عقلهم وأفكارهم من خلال ما يكتبون.

الأديب الكبير نجيب محفوظ فعل ذلك بصورة عكسية، حيث فجر في "أحلام فترة النقاهة" ما لم يفجره في رواياته وقصصه من مقولات، حين نقلنا في خفة وبراعة من الوعي بأحداث عابرة في الأزمنة والأمكنة إلى منطقة اللاوعي "الظل" شديدة الحساسية والالتباس. كان "اللاوعي" هو الموجِه لما كتبه محفوظ في أحلامه وانتقى منه ما يصلح لأن يعمل قلمه فيه. قرأت له "أحلام فترة النقاهة" كلها وتوقفت كثيرا عند الحلم (131) وفهمت رمزيته بصورة ربما لم تخطر ببال قارئ لهذا الحلم من قبل. كنت مطمئنة لتحليلي لهذا الحلم بأنه يدور في فلك "الوعي" الذي يوقظه "اللاوعي" ويبقيه منتبها مشدوها. يقول محفوظ في حلمه الواعي عن الصراع بين الظل والقناع كما فهمته: "لقاؤنا في هذا الركن من الغابة وحياتنا طرب مستلهم من المواويل، وسماؤنا سحب من دخان رقيق عاطر، ونحن كأننا نائمون أو غافلون. وذات يوم اقتحم هدوءنا غناء غريب، مجنون الإيقاع شديد الصخب، فذهلنا ورأى بعضنا إسكاته ولو بالقوة؛ على حين آثر البعض التأمل والحكمة، وعلى أي حال فقد استيقظ النائمون وتخفر الغافلون". كان نجيب محفوظ بارعا في عرضه اللاوعي بصورة واعية وكان-من وجهة نظري- أكثر غموضا وذكاء من "ميلان "كونديرا" الذي صرح بجرأة متناهية بأن شخصيات رواياته هي إمكاناته الشخصية التي لم تتحقق، وكان يحبها ويرتعب منها في الوقت ذاته، لأنها عبرت حدودا لم يكن في استطاعته سوى الالتفاف حولها، أي لأنها "ظله". ثمة مشكلة كبيرة نواجهها حين نبحث عن تقنية فعالة نستطيع من خلالها إدارة العلاقة بين "ظلنا" بأسراره ونواقصه وبين "قناعنا" الذي نواري به سوءات ظلنا بما لا يخدش حياء الوعي الجمعي وبما لا يضعنا في تصنيف لا نرتضيه لأنفسنا وسط القطيع. كيف يمكن استيعاب "الظل" و العقل الباطن ودمجه بحرفية مع العقل الواعي؟ربما يكون السبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو امتلاك قدرات فردية تعمد إلى الحنكة والدبلوماسية، تجعلنا نفطن للظل جيدا وندرك نواياه وننتبه لحالته المزاجية، كي نستطيع التفاوض معه لفترات طويلة، حتى ينسجم مع القناع الساتر لظلنا، وهو عامل الحماية والتكيف عند تشكيل الوجه الذي نرتضي أن نظهره أمام المجتمع أو الساسة. أزعم أنني أفهم جيدا منذ أن تعلقت بأهداب "علم النفس التحليلي" ومؤسسه "كارل يونج" ضرورة أن نقول أو نكتب دون أن يقودنا ما نقوله أو نكتبه إلى التهلكة، وأن نتصرف مع المواقف حالكة السواد بحنكة ودبلوماسية ما استطعنا وأن نجابه الانصياع الأعمى للأوامر الصادرة من الغرفة العقلية المظلمة، التي تنطوي على ظلنا أو عقلنا الباطن، بالحرص على الالتزام بارتداء القناع الذي ارتضينا شكله دون أن نفتتن به. أعلم أن بداخل كل منا قوتين متنازعتين يؤلمنا نزاعهما، لأنهما يتنازعان في داخلنا في مكان يشبه كثيرا الغرفة أو الخلية المليئة بالسائل في "المشكال"؛ وهي التي تحمل نزاعاتنا والمكبوتات الدفينة لتطفو على السطح وتبدو لنا كفرضيات جلية، لكنها متغيرة وغير متجانسة، وكلما تغير انعكاس الضوء على مرايا "المشكال" كلما رأينا جديدا لم تقع عليه أعيننا من قبل. سيكون مطلوبا منا أن نصمت وأن تكون عقولنا زائدة على ألسنتنا حين نعي أن الصور المنبعثة من "المشكال هي أنفسنا التي نقابلها وجها لوجه، والتي لا نستطيع أن نظهرها لغيرنا من البشر، وإلا لانفضوا من حولنا رعبا منا وزهدا فينا. روبرت لويس ستيفنسون استطاع أن يتناول تلك المسألة قبل "يونج" في قصته "دكتور جيكيل ومستر هايد"، وكانت الرسالة صريحة وواضحة بأن دكتور جيكيل كان محترما بين الناس حين احترم القناع وأدار ظله بصورة جيدة، لكنه دمر حياته حين تحول إلى السيد هايد وترك نفسه للظل يسيطر ويهيمن عليه. الظل هو مشاعرنا السلبية التي لم نستطع أن نظهرها أمام الغير، كالغيرة والحسد والكراهية والرغبة في الانتقام وادعاء السعادة وغيرها، وهو المشاعر التي لم نستطع أن نصرح بها والتصريحات التي خشينا من تبعاتها إذا ما تلفظنا بها، وقد يكون الظل جزءا من مواهب وإمكانات وقدرات مكبوتة، حال الوعي الجمعي دون تحرريها من تجاويف النفس المستترة. علينا أن نتعرف على "ظلنا" وندرك صفاته السلبية والإيجابية ونتصالح مع هذا الجانب الخفي المظلم، بأن نحسن اختيار القناع الذي يناسب انتماءاتنا للوعي وللاشعور الجمعي، دون أن نهرب من ذواتنا الحقيقية أو نفقدها. لسنا مطالبين بأن نكون مثاليين، لكننا في رحلة السعي للكمال لابد أن نصطدم بالخير والشر معا، بالظل والقناع؛ وليس أمامنا سوى أن نستوعب ظلنا في شخصيتنا الواعية