الأحد 28 أبريل 2024 مـ 03:47 صـ 19 شوال 1445 هـ
جريدة النور
نادي النصر الرياضي
نادي النصر الرياضي
رئيس التحرير محمد حلمي

قناوي لم يُغرِق السفينة!

كان الوصول إلى "ناراغونيا"أو الأرض الموعودة هو الحلم الذي كان يطمح إلى بلوغه حمقى سفينة الأديب والمحامي الألماني "سيباستيان برانت" في كتابه الهزلي "سفينة الحمقى". هذا الكتاب الذي سخر من خلاله برانت من المجتمع الأوروبي أواخر القرن الخامس عشر ومن سلوك المعاصرين له، ومن أولئك الحمقى الذين يجمعون أطنانا من الكتب للتباهي بها، لكنهم لا يقرؤونها. "سفينة الحمقى" هي رحلة خيالية ضمت مئة واثني عشر أحمقا على متنها؛ كل واحد منهم كان يمثل نموذجا للتصرفات البشرية الخرقاء. هؤلاء جميعا كان يقودهم ربان أحمق متغطرس، كان يتوهم أنه واسع العلم والمعرفة؛ إنه قارئ لم يقرأ شيئا من الكتب المتكدسة في مكتبه ولم ينشغل قط بمطالعتها؛ كان فقط منخرطا في ملاحقة الذباب الذي يصدر طنينا حول مكتبته. وذات يوم داهمت السفينة عاصفة شديدة، وبدلا من أن يواجهها الربان والحمقى بحكمة ورشد، نشبت حرب بينهم عمن يقود السفينة، وتنازعوا أمرهم بينهم على اختلاف انتماءاتهم وأيدلوجياتهم، حتى بلغ الماء الحناجر وغرقت السفينة وهم يتنازعون. برانت في أطروحته الأدبية لم يكن ينتقد الحماقة الإنسانية في حد ذاتها، بل كان يسخر من الإصرار عليها والاستمرار في مواصلاتها حتى الهلاك، مع عدم إدراك الحمقى لحماقتهم. ولم يختلف مضمون اللوحة الفنية للفنان الفلمنكي المتميز "هيرونيموس بوش" "سفينة الحمقى" عما طرحه سيبستيان برانت في كتابه، فاللوحة مستلهمة من الكتاب، وكلتا السفينتين تحملان حمقى يمثلون خليطا متنافرا، يتكلمون كلاما لا فائدة منه، ويطمحون لتحقيق غايات لا يملكون تحقيقها. إنهما سفينتان ترمزان لرذائل البشر وبشاعة سلوكهم وسوء استخدامهم للوسائل، مع إصرارهم على مواصلة الحماقة حتى الهلاك. سبق المحدث والمؤرخ العربي الحافظ أبو الفرج الجوزي سفينة برانت وبوش بعقود كثيرة ، حين تناول الحمقى وصفاتهم وأحوالهم في كتابه"أخبار الحمقى والمغفلين"،. لكن ثمة اختلافا كبيرا بين سفينة الحمقى بمعناها ورمزيتها في أدب برانت، ولوحة بوش، وأخبار الجوزي عن الحمقى والمغفلين، وبين الواقع غير الإنساني الذي كان سائدا في أوروبا حتى القرن الخامس عشر. سفينة الحمقى في العصور الوسطى الأوروبية كانت سفينة حقيقة، يتم من خلالها استبعاد المجانين من خلال إرسالهم على ظهر سفينة تجوب الأنهار الأوروبية دون ربان ودون مرسى. سفينة الحمقى كانت رمزا للإقصاء والنبذ، كانت نموذجا للمصلحة الفردية الطاحنة، التي تجعلنا نضحي ببعض الأشخاص بعزلهم ونفيهم من أجل الآخرين. كانت المدن الأوروبية تطرد المجانين من جنباتها ليلحقوا بالبراري، حيث يهيمون على وجوههم؛ لا جدوى لحياتهم فوق ظهر سفينة في عرض البحر، فهم موتى على ذمة الحياة. ولم يقتصر التعامل معهم بالاحتجاز والنفي، بل وصل الأمر لصلبهم على عواميد للتشهير بهم. كانت بوابات المجانين منتشرة في ألمانيا وفرنسا، لتفصل بين العقلاء والمجانين، وكان العقلاء يدفعون مبلغا زهيدا كي يروا المجانين، وكانت مشاهدة المجانين والسخرية منهم هواية عند الطبقة البورجوازية على وجه الخصوص. آلمني ما كان يتعرض له المجانين في عصور أوروبا الوسطى من نبذ وإقصاء وتشريد وتعذيب وقسوة لهؤلاء المرضى المصابين بخلل عقلي، لكني في الوقت ذاته وجدت في سفينة برانت وفي لوحة بوش مصيرا عادلا للحمقى وواقعا أُحيل إلى الخيال وغُلف به، حين استُبدل المجانين بالحمقى وكانوا هم الركاب الذين يستحقون هذا المصير البائس. أليسوا هم، بسبب كساد عقولهم ورأيهم، مصدر كل اضطراب وصراع؟ سفينة الحمقى هي المصير العادل لمن يتصفون بالجهل، والعجلة، والجفاء، والغرور، وعدم الإنصات لصوت العقل، والاجتراء على الحق، والغضب في موضع الرضا، والرضا في موضع الغضب، والخلل في استخدام الوسائل، والكذب، وغير ذلك من الصفات القبيحة التي يطول سردها. "سفينة الحمقى" هي رمز لكل من ضل طريق الحكمة وآثر عليه الحماقة والكبر والجهل والبلاهة والتبلد. أما الجنون فليس بتهمة تستوجب قمع المجنون وإجباره على امتطاء صهوة المحيط، والترنح بين ضفتين لا ينتمي لأي منهما. وهو داء لا يعطينا الحق في أن نجعل حيا يشهد على موته، ونستنزف روحه في حنايا الهزيمة واليأس والألم، عبر مروره بمسارب أشبه ما تكون بمسارب النمل، متعرجة ومتداخلة ولا تقود إلا إلى الهاوية. حمقى المجتمعات هم أكثر الناس قدرة على صناعة المجانين، حتى وإن كانت للجنون أو للاضطراب النفسي أسباب عضوية أو كيميائية أو وراثية، إلا أن ثمة حقيقة لا يمكن إغفالها وهي أن الجنون صنيعة واقع اجتماعي وثقافي؛ حتى إن إعطاء دواء لمريض اكتئاب مثلا قد يساهم في التخفيف من ألم المرض والحياة، لكنه لا يستطيع أن يعالج السبب الوجودي لهذا المرض.

تحضرني الآن مشاهد لشخصيات أعارها الأدب اهتماما، حين أظهر كيف عانت من اضطرابات عقلية ونفسية، وكيف كانت المجتمعات تنظر إليها نظرة تخوف واحتراز واستنكار، و كيف قابلت مرضها بالنبذ والعزل والإقصاء والتنمر، حتى أصبحت تلك الشخصيات، التي هي ضحايا السخرية والرفض، قنابل قابلة للانفجار ثأرا من حمقى المجتمعات، الذين أقصوهم وأجبروهم على ركوب سفينة الاغتيال النفسي والمادي. ماذا كانت خطيئة الأمير "ميشكين"، في رواية "الأبله" لدوستويفسكي، سوى أنه كان إنسانا يتصف بالإخلاص والتواضع، ومع ذلك وقع ضحية مجتمع حمقى لا يقيم وزنا لمثل هذه الخصال؟! شاهدت العديد من الأفلام السينمائية التي ألقت بظلال سوداوية ومعتمة على نفسيتي من خلال شخصياتها، ضحايا النبذ والتهميش، مثل شخصية "آرثر" في فيلم الجوكر. كانت سخرية الحمقى منه وتهميشه والاستخفاف به، وكان حواره مع معالجته النفسية التي أخبرته من خلاله أن الدولة لا تهتم بأمثاله بتوفير الدواء له، إلى جانب طفولة مضطربة غير سوية بسبب أمه، هي ذخيرة السلاح الذي قتل به كل من ظلمه أو تنمر به من الحمقى؛ كان القتل هو الانفجار الذي أحدثه "آرثر" في أجساد الحمقى والمجتمع الذي لا يكترث بأمثاله. وليس المشهد ببعيد عن "قناوي" في باب الحديد الذي لم يجد من يحنو عليه عدا "عم مدبولي"، واصطلى بنيران قسوة مجتمعه الهش المعتل الذي يطارده بالحجارة، ليهرب منها بين قضبان ممرات القطارات الخلفية الوحشية. "آرثر" و "قيناوي" هما نموذجان لميلودراما مصغرة ترمز إلى القتل التدريجي بدم بارد الذي يمارسه حمقى المجتمعات مع ذوي الاضطرابات العقلية. كان الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" قد عانى من الجنون ودخل مصحة نفسية للعلاج واستطاع أن ينتصر على جنونه حتى شفي منه. ولا يمكنني أن أغفل في معرض حديثي عن "الجنون" ما قدمه فوكو على طاولة العلم والتاريخ عن الوقائع السيكولوجية للجنون في كتابه الشهير "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي". وحين قرأت له "سفينة الحمقى"، الفصل الأول من كتابه، أدركت أن ما تعرض له المجانين على متن سفينة الحمقى كان بمثابة وخزة مؤلمة عاني منها الضمير الإنساني، لكن فوكو نجا منها بدخوله المصحة العقلية أو ما كان معروفا "بالمارستان". نجاة فوكو وأمثاله أثبتت أن الخلل العقلي يمكن أن يكون أمرا عارضا، نتيجة ظروف معينة أو أحوال متضاربة، يمكن الشفاء منه إذا ما ركب مرضاه سفينة يعرف ربانها كيف يصل بهم إلى بر التعافي، دون أن يغرق أحدا. أما الحماقة فهي غريزة تلازم الشخص وهي داء لا يرجى شفاؤه كما قال عنها المتنبي إنها "أعيت من يداويها". وإذا ما أطلنا النظر والتحديق فيما أورده النيسابوري عن "عقلاء المجانين" الذين كانوا حاضرين في عمق النقاش الذي طبع عصرهم، سنرى كيف كانون ينطقون بالحكمة أمام الملوك والولاة ويفحمونهم. المجنون ليس درويشا أسطوريا، وليس وحشا شريرا، بل هو مريض يمكن أن يتعافى إذا ما وجد من يحنو عليه، ويتفهم مرضه ويقدر معاناته، حتى لا تستقر المعاناة بداخله وتسممه. لسنا بحاجة لسفينة لنفي المجانين وإقصائهم عن عالمنا، بل نحن في أمس الحاجة لسفن تحمل الحمقى، وتذهب بهم بعيدا عنا بلا رجعة، كي لا تغرق سفننا نحن.