في البدء كان الفن

كتبت عفاف يوسف فنانة تشكيلية
منذ فجر التاريخ، كان الفن هو الوسيلة التي واجه بها الإنسان عالمه المليء بالغموض والمخاطر. فعلى جدران الكهوف، لم يرسم الحيوان لمجرد الزينة أو التسلية، بل ليمنحه حضورًا رمزيًا يمكن السيطرة عليه. فالرسم هنا لم يكن تعبيرًا شخصيًا بقدر ما كان فعلًا سحريًا – محاولة لترويض الطبيعة قبل مواجهتها.
الكهوف المكتشفة مثل “لاسكو” في فرنسا و”شوفيه” في إسبانيا تكشف عن هذا البعد العميق؛ حيث تظهر حيوانات ضخمة في أوضاع صيد أو مواجهة، وكأن الإنسان أراد أن يثبت تفوقه عليها أولًا في الصورة قبل أن يواجهها على أرض الواقع. لقد تعامل مع الرسم كقوة خفية، تُمكّنه من السيطرة على ما يهدده، وتؤكد امتلاكه لعالمه.
وهنا تبرز أهمية الفن كأداة للبقاء، وليس مجرد لغة للتعبير. فالإنسان لم يكن همجيًا بلا وعي كما يُصوَّر أحيانًا، بل كان يتمتع بحس فني وروح مغامرة وتفاعل غريزي مع بيئته. كان يعرف أن الخطوط والأشكال والرموز تملك قوة، وأن تمثيل الحيوان على جدار مظلم يمنحه، ولو لحظة، اليد العليا عليه.
الفن إذن لم يولد ترفًا، بل نشأ كحاجة للبقاء والسيطرة. ومع ذلك، فإن هذه الحاجة نفسها حملت في طياتها بذور الجمال والابتكار. وربما لهذا ما زالت جداريات الكهوف تُدهشنا، لأنها ليست مجرد آثار قديمة، بل شواهد على أول محاولة للإنسان أن يفرض وجوده على العالم، لا بالسيف أو النار، بل بالخط والصورة.
عفاف يوسف
فنانة تشكيلية