الأربعاء 5 نوفمبر 2025 01:04 صـ 13 جمادى أول 1447 هـ
بوابة النور الاخبارية
رئيس التحرير محمد حلمي
×

التراث المصرى بين الفعل الجمالي والذاكرة الجمعية ... بقلم عفاف يوسف

الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 07:13 مـ 13 جمادى أول 1447 هـ
الفنان المصرى راغب عياد - رقص الخيل ١٩٥٧
الفنان المصرى راغب عياد - رقص الخيل ١٩٥٧

استوقفنى كادر بفيلم مصرى قديم لبرواز خشبي يحيط بباب غرفة داخل بيت مصري بسيط، أُخذت بنقوشة البارزة بفروع شجرٍ وزهرة لوتسٍ مصرية. كانت لقطة عابرة، لكنها فتحت أمامي ذاكرة وتساؤل.
متى وكيف أصبح هذا المشهد مجرد أثرٍ بصريٍّ نادر؟ ما كان يومًا حيًّا في تفاصيل بيوتنا كيف اصبح جزءًا من أرشيفٍ متحفيٍّ يُستعاد ولا يُمارَس؟

انسحب التراث من الحياة اليومية والممارسة والوجود الحى إلى الذاكرة والتوثيق والعرض .
صار التراث مثل كائنٍ مجمّد داخل لحظة زمنية، نُبجّله ونحتفي بصوره أكثر مما نلمسه ونحتفي بحضوره.

ولعلّ ما جرى له يشبه ما جرى للفن حين فقد ارتباطه بالأرض. فالفن، مثل التراث، كان يومًا ممارسة جماعية تنبع من الحاجة لا من العرض، ومن علاقة الإنسان بالعناصر الأولى كالطين والماء والنور والظل.
كانت الطقوس الفنية القديمة احتفالًا بالكون،
يتشارك فيها الجميع في لحظةٍ واحدة تتحد فيها الموسيقى والحركة واللون والإيمان، يتحقق خلالها الإشباع الروحي الجمعي الذي يمنح الإنسان اليقين والانتماء.

لكن حين انفصل الفن عن الناس، انكسرت تلك الدائرة التي كانت تربط الروح بالأرض. وتحوّل إلى تجربة فردية أو نُخبوية، وأصبح ما نراه اليوم في أعمال “فن الأرض” محاولة جميلة، لكنها متأخرة، لإعادة تلك الصلة المقطوعة.
فهي رغم رموزها الكونية العميقة وسعيها لإحياء العلاقة بين الإنسان والطبيعة لا تمنح بالضرورة ذلك الامتلاء الروحي الذي كانت تمنحه الطقوس القديمة.
نتأملها عن بُعد، ولا نشارك فيها ككائنٍ منخرط في الفعل،
ولهذا تبقى في جوهرها يقظة روحية بلا دفء جماعي.
تذكّرنا بأننا جزء من نسيجٍ كوني حي، لكنها لا تُعيدنا إلى الحالة الأولى من الامتزاج بين الجمال والإيمان.

وكذلك تراثنا الشعبي اليوم؛
ما زال يوقظ الذاكرة، لكنه لا يملأ الحاضر
يحرك فينا الحنين ولا يعيد الإحساس الكامل بالانتماء.
صار التراث مثل فن الأرض ،
يحمل الرموز نفسها، لكنه فقد حرارة الممارسة الأولى.
وكما فقد الفن الأول صلته بالجماعة،
فقد التراث صلته بالحياة اليومية،
وتحوّلت رموزه من فن يُعاش إلى شكلٍ يُعاد.

حتى هذا الشكل تغيّرت قدرتنا على قراءته.
فزهرة اللوتس التي كانت تجسّد النقاء والخلق الأول،
صارت نقشًا يُستخدم للزينة، لا أحد يدري ما تعنيه.
وعين حورس التي كانت تُستحضر للحماية والشفاء والمعرفه والحكمة، تحوّلت إلى إكسسوار تُباع في الأسواق السياحية، تزيّن أعناق الغرباء.
النخلة التي كانت ترمز إلى النصر والسلام والاستقامة والحياة الابدية ،
لم تعد حيةً تُزرع في البيوت، بل مجرد شكل مطبوع على الأكواب والمقاهي الحديثة.
ونقوش عدة لم تعد تستخدم إلا فى الافتتاحات والاحتفالات بشكلها الرمزى بدون حتى ادنى وعى لماهياتها ودلالاتها
حتى مفردات الملبس تغيّرت،
الجلابية التي كانت تعبيرًا عن البساطة المصرية اختفت تحت وطأة التعريب تارة والتغريب تارة اخرى .
وطال الأمر الطعام؛
فالمائدة التي كانت تجمع العائلة حول خبزٍ بلديٍّ والفول والجرجير ، استبدلت دفئها بوجباتٍ سريعة لا تنتمي إلى أرضٍ أو موسم ، حلّ الهمبرجر” محل “الفول”،
وصار الأطفال يعرفون أسماء المطاعم الأجنبية أكثر من أسماء الحارات التي وُلدوا فيها.

ربما لا يحتاج التراث إلى من يرثه، بقدر ما يحتاج إلى من يحياه ، أو على أقل تقدير يعى مدلوله ومعناه ، فجوهر التراث لا يكمن في مادّيته، بل في الوعي الذي أنتجه، وفي القيم التي شكّلت وجدان الجماعة عبر الزمن.
وحين نستعيد هذا الوعي في تفاصيل حياتنا، نكون بذلك قد اعدنا للتراث دوره الحقيقي بوصفه معنى، لا مادةً للعرض أو التزيين.