الإثنين 8 سبتمبر 2025 10:01 مـ 15 ربيع أول 1447 هـ
جريدة النور
رئيس التحرير محمد حلمي
×

القبح من زاوية اخرى بقلم الفنانة التشكيلية عفاف يوسف

الإثنين 8 سبتمبر 2025 01:56 مـ 15 ربيع أول 1447 هـ
اللوحة لفرانسيس بيكون
اللوحة لفرانسيس بيكون

يُعَدّ القبح أحد القيم الفنية المرتبطة بتجربة الفنان . فكما يُنظر إلى الجمال باعتباره غاية فنية، يمكن النظر إلى القبح كـجمال وظيفي وقيمة تتجاوز ظاهرها المادي لتفتح أفقًا أوسع للتأويل والمعنى. إن الجمال والقبح وجهان لعملة واحدة، فلا وجود لأحدهما بمعزل عن الآخر. فالجمال قائم بمعاييره وحدوده، بينما يأتي القبح ليخترق هذه الحدود ويتمرد عليها.

والمعنى الظاهري للقبح يرتبط بالبعد المادي، أي انه كل صفة يأباها الذوق الفطري السليم والعرف السائد . في المقابل يُنظر إلى الجمال كقيمة تُدخل السرور إلى النفس وتبعث إحساسًا بالتناغم. لكن للقبح أيضًا معنى أعمق، يمكن تسميته بالبعد الجوهري أو الوظيفي؛ إذ يرتبط بالجانب الأخلاقي والفلسفي للعمل الفني.

ورغم أن القبح يبدو ظاهريا نقيضًا للجمال، إلا ان كثيرين يرون فيه معاني متعددة مثل الرعب، السخرية، الخوف، الألم، بل وحتى التمرد. وعادةً، عندما يواجه الفنان مشهدًا قبيحًا يثير الألم أو الصدمة ،فقد يجد في هذا المشهد مادة لتشكيل عمل فني. أحيانًا يكون الهدف هو الثورة على التقاليد، أو تحدي المجتمع، أو حتى البحث عن صياغة جديدة تكسر المألوف.

ومن هنا نجد ان جوهر العلاقة بين القبح والفن يتمثل في طريقة معالجة الفنان له وتقديمه للمتلقي. فالقبح يمكن أن يتحول إلى جمال داخل العمل الفني بما يحمله من رموز ورسائل ودلالات قد ترفض القبح نفسه، لكنها تستخدمه كأداة للتعبير.

فى العصور القديمة كان يُنظر إلى القبح نظرة تحقيرية، ولم يكن مقبولًا بأي شكل، بل كان سببًا في رفض العمل الفني وتصنيفه كخارج عن المعايير. غير أن الفنون الحديثة والمعاصرة قلبت هذه المعادلة؛ فأصبح القبح عنصرًا مميزًا في بعض الأعمال، وصار يُستخدم كوسيلة للتمرد على السائد وكسر الصور النمطية. أعمال عديدة لجأت إلى تصوير شخصيات مشوهة أو مشاهد دموية وصادمة، ليس لمجرد الإثارة، بل لإحداث صدمة فكرية وجمالية تضع المتلقي أمام تساؤلات جديدة حول معنى الفن وحدوده.

شهد تاريخ الفن الحديث عالميا أمثلة بارزة بهذا الصدد ،فالتعبيرية في أوائل القرن العشرين جسّدت القبح في شخوص مشوهة وألوان صاخبة كما في لوحة “الصرخة” لإدوارد مونش ، بينما لجأ السرياليون مثل سلفادور دالي إلى صور غريبة وصادمة تكشف عوالم الاحلام واللاوعي. وايضا بعد الحرب العالمية الثانية قدّم فرانسيس بيكون أجسادًا مشوهة ومعذبة تعكس الرعب الوجودي .

أما في الفن المعاصر فقد اتخذ القبح طابعًا استفزازيًا كما في أعمال داميان هيرست التي استخدم فيها جثثًا ومواد عضوية متحللة لتسليط الضوء على فكرة الموت والاستهلاك.

أما عن عزيزتنا مصر فقد لعبت الفنانات التشكيليات دورًا مهمًا في استدعاء القبح بوصفه وسيلة للتعبير عن المعاناة الإنسانية. فنجد إنجي أفلاطون قدّمت لوحات جسّدت فيها وجوهًا متعبة وأجسادًا مرهقة، خاصة خلال فترة سجنها، حيث صار القبح بُعدًا جماليًا يكشف القهر والظلم. أما جاذبية سري فقد استخدمت ضربات فرشاة عنيفة وألوانًا متشابكة لتصوير الواقع المصري بما فيه من قسوة وتناقضات. لتعكس صدق التجربة الإنسانية. وبهذا يصبح القبح في التجربة المصرية أداة لفضح القهر الاجتماعي والسياسي فى هذه المرحلة ، ووسيلة للاقتراب من الحقيقة بجرأة وصراحة.

القبح ليس مجرد نقيض للجمال، بل أداة فنية فاعلة تتيح للفنان التعبير عن أعمق القضايا الإنسانية وأكثرها تعقيدًا. وإذا كان الجمال يمنحنا شعورًا بالراحة والانسجام، فإن القبح يوقظ فينا الوعي والدهشة، ويكشف لنا وجوهًا أخرى للفن وللحقيقة. وبذلك يصبح القبح في الفن علامة قوة، ووسيلة تفتح مساحات جديدة للبحث والتجريب والتأمل.