صاحبة المقام

قصة قصيرة بقلم: سماح محمد علي
نزلت من الشاحنة مهرولة نحو المسجد.. لا تلقي بالًا لما اعتراها من عثرات الطريق، وما تشعر به من دوار ورغبة فى القىء. عيناها تتنقل بريبة بين الحاضرين، وكلما تعلقت نظراتهم بها، ارتجفت، وخيل إليها معرفتهم بسرها.
اتخذت من أكتاف الواقفين سندًا، حتي وصلت إلى المقام. أفرغت ما لديها من زجاجات المسك الأسود، ثم قرأت الفاتحة، ويدها تمسح فوق الدوائر النحاسية، ثم ترتد فوق رأسها وملابسها. أسندت خدها تتأمل ما خلف الحاجز اللامع. تنصت.. لعلها تتلقى رسالة من العالم الآخر، تخترق قلبها، وتتنفسها مسام جلدها، فهي فوق طاقة سماع البشر، كما تعلمت من حكايات جدتها. تلتقط أنفاسها ببطء، وكأنها في الرمق الأخير.. دموعها تنساب دون حاجز، تملأ ما بوجهها من أخاديد. أحست بروحها تنسحب لأسفل، فجلست مسندة ظهرها من فرط الإعياء. لملمت قدميها بعد أن أحكمت عليهما ملسها الفضفاض. وضعت رأسها الثقيل على كفها، وأطرقت.. وكأن سحابة دخانية أغشت عينيها فجأة، فأصبحت الرؤية أمامها ضبابية، والأشياء من حولها تهتز. تراءى لها من خلفها أقدام تدور حول المقام، ووصل إلى سمعها صوت امرأة تنشد أبياتًا لا تدري كنهها.. عبارات تتداعى بالمكان بين الحين والآخر من بعض عاشقي السيدة "عطشان يا ست، عطشان والنبي". لم تتحمل ثقل جفونها، فأغمضت، وارتمت بجوار الحاجز. هناك من يرقبها مذ دخولها.. أحكم عمامته، وارتدى عباءته، واتجه نحوها مسرعًا، وأعانها على الجلوس. نظرت إليه بعينين قتلهما الحزن، وأخفت نورهما ستائر الهم.
- مالك يا ابنتي؟!
بحرقة تبكي، وبصوت متهدج، مزقه الذنب.
- أوقعني غصبًا، وما كنت أعلم معنى الكبائر..جئت إليها.. لعلها وسيط توبة.
غطت وجهها من فرط خجلها، وغلبتها صرخة مكتومة تاهت بين إنشاد المريدين. أمسك بطرف ثوبها.. إشارة لها على النهوض.. متحاشيًا لمس جسدها.
- عودي من حيث أتيتِ..مرغي وجهك في سجدة.. ابكي في حضرته.. الله يحب أن يأتيه عبده فردًا.
التقطت نفسًا عميقًا، زفرت فيه كل ما ضاق به صدرها. هندمت ملابسها، بعد أن استعادت وعيها. خرجت من المسجد بوجه شاحب، مصفر. صوت الرجل يصدح برأسها طوال الطريق. بقلب واثق مطمئن، تدفع وساوسها.. أمّا قدماها، فكانت تخطو إلى الأمام مرة، ثم إلى الخلف حيث المقام مرة أخرى.