الأدب والفلسفة: حين يتكلم العقل بلسان الجمال

يبدو الأدب والفلسفة للوهلة الأولى مجالين منفصلين فالأول يَسكنُ في اللغة والصورة والخيال والثاني يقيم في أرض المنطق والعقل. غير أنّ التاريخ الأدبي يثبت أنّ الاثنين يلتقيان عند غاية واحدة البحث عن الإنسان ومعنى وجوده. فالأدب يمنح الفلسفة حياةً ووجدانًا بينما تعطي الفلسفة للأدب عمقًا واتساعًا في الرؤية.
في التراث العربي يبرز أبو العلاء المعرّي بوصفه نموذجًا حيًّا على التقاء الشاعر والفيلسوف. فهو القائل في بيت صار أيقونة للفكر:
( هذا ما جناهُ أبي عليَّ وما جنيتُ على أحدِ )
وهو تعبير عن رؤية فلسفية للقدر والمصير تنضح بالحكمة وتُحيل القارئ إلى أسئلة كبرى حول الحرية والمسؤولية. شعر المعرّي خاصة في اللزوميات ليس مجرد إبداع لغوي بل نصوص مشبعة بالتأمل في الموت والحياة والعدالة والمعرفة.
وفي العصور الحديثة تجدد اللقاء بين الأدب والفلسفة على يد أعلام كبار. جبران خليل جبران في كتابه النبي كتب بلسان يجمع بين الشعر والفكر: ( الألم هو انكسار القشرة التي تغلّف إدراككم ) بينما جعل محمود درويش من لغته ساحة وجودية مفتوحة قائلاً: ( وأنا من أنا؟ سأقول لكم: أنا لغتي ) حيث تتحول اللغة إلى هوية وإلى سؤال فلسفي بامتياز.
أما أدونيس فقد نظر إلى القصيدة على أنّها أفق للتفكير المستمر، فقال: ( القصيدة ليست جوابًا بل هي سؤالٌ آخر ) مؤكداً أن الشعر لا يقدم حلولًا بل يفتح الأبواب أمام العقل والخيال. وعلى الضفة الأخرى برز الفيلسوف عبد الرحمن بدوي الذي أكّد أنّ ( الفلسفة لا تعيش إلا إذا كانت حوارًا مع الأدب والفن ) وهو اعتراف واضح بأهمية التزاوج بين الحقلين.
إن قيمة هذا التداخل بين الأدب والفلسفة تكمن في أنّه يمنح النصوص قوة مضاعفة: تُقرأ بالعقل والوجدان معًا. فالأدب الذي يستند إلى الفلسفة لا يبقى مجرد حكاية أو صورة بل يصبح تجربة فكرية وإنسانية متكاملة تجعل القارئ يعيد التفكير في نفسه وفي العالم من حوله.
إنّ الأدب والفلسفة ليسا خطّين متوازيين بل هما نهران يلتقيان في مصبّ واحد: الإنسان. الفيلسوف يطرح السؤال بصرامة العقل والأديب يجيب بلغة الصورة والجمال وفي هذا التلاقي يولد الإبداع الحقيقي. وإذا كان العقل يضيء درب الحقيقة فإن الأدب يجعل هذه الحقيقة قابلة للعيش والتذوق. وهكذا يظل الأدب العربي شاهدًا على أنّ الفكر حين يتكلم بلسان الجمال يصبح أكثر رسوخًا في الذاكرة وأقرب إلى القلب.
صباح الخير