حين يرتدي إحسان عبد القدوس عباءة رفاعة الطهطاوي

كيف نحافظ على روح الكلاسيكية في الأدب بنَفَس معاصر؟
لم يكن الأدب عبر تاريخه مجرد نصوص تُكتب بل مدارس ورؤى متراكمة؛ وقد شكّل الأدب الكلاسيكي أساسًا متينًا قام على القواعد الصارمة والأنماط الواضحة من التزام الوزن والقافية في الشعر إلى بنية الحكاية المتماسكة في السرد. لقد مثّل الكلاسيكيون مدرسة "الانضباط" التي جعلت الأدب فنًا رفيعًا له معاييره وحدوده.
ثم جاء الأدب المعاصر ليكسر القيود ويفتح الأبواب للتجريب والحرية. صار النص فضاءً مفتوحًا يزاوج بين الأجناس ويجرّب لغات جديدة ويستحضر هموم المجتمع والتحولات الإنسانية في قالب أكثر مرونة.
لكن السؤال الذي يواجهنا اليوم: هل نترك الكلاسيكية وراءنا كصفحة مطوية؟ أم نسعى لأن نحافظ على روحها داخل جسد معاصر؟
الحقيقة أن الحفاظ على روح الكلاسيكية لا يعني الجمود عند قوالبها بل استحضار جوهرها: جمال اللغة صرامة البناء وقيمة الفكرة. هذه العناصر يمكن أن تظل حاضرة حتى في أكثر النصوص المعاصرة تجريبًا. فالشعر الحر مثلاً رغم تحرره من الوزن والقافية يستطيع أن يحمل موسيقى داخلية تضاهي إيقاع القصيدة العمودية والرواية الحديثة مهما تكسرت بنيتها تستطيع أن تستبقي العمق الإنساني الذي ميّز الكلاسيكيات.
وإذا تأملنا تجربة رفاعة الطهطاوي – رائد النهضة وممثل الروح الكلاسيكية – نجد أنه كان يكتب بعقل المعلّم والمصلح في لغة رصينة متينة هدفها تهذيب المجتمع وإرساء قيم العقل والانضباط. نصوصه كانت أقرب إلى "الخطاب التنويري" الذي يضع القاعدة ويؤسس للمبدأ فالكلمة عنده وسيلة للتقويم والتعليم.
أما إحسان عبد القدوس فكان يكتب بعين الفنان وقلب الإنسان لغته أكثر سلاسة وقربًا من وجدان القارئ، موضوعاته انفتحت على قضايا الحب والسياسة والمجتمع في قالب قصصي مشوّق. لم يتخل عن البناء الواضح ولا عن قوة الفكرة لكنه ألبسها ثوبًا أكثر حيوية وجرأة.
وهنا تتجلى فرادته: إذ استحضر صرامة الطهطاوي وجديته في الالتزام بفكرة واضحة ورسالة إصلاحية لكنه صاغها بأسلوب قصصي درامي يقترب من الناس ويعيش معهم. وهكذا صار عبد القدوس نقطة التقاء بين الكلاسيكية التي أرساها الطهطاوي والمعاصرة التي تحتاجها الأجيال اللاحقة.
إن تجربة عبد القدوس تؤكد أن الأديب لا يحتاج إلى أن يختار بين أن يكون "كلاسيكيًّا" أو "معاصرًا" بل يمكنه أن يجمع بين الاثنين فيصوغ أدبًا متينًا من حيث البناء، حيًّا من حيث القضايا خالدًا من حيث القيمة.
ومن موقعي ككاتبة شابة أؤمن أن مسؤوليتنا اليوم ليست في تقليد الماضي ولا في الانغماس الأعمى في الحاضر بل في أن نحمل جوهر الكلاسيكية ونصوغه بأدوات معاصرة. أن نكتب بلغة جميلة محكمة لكن قريبة من الناس وأن نجعل نصوصنا جسرًا يصل بين أصالة الماضي وتحديات المستقبل.
وهكذا يبقى الأدب حيًّا متجددًا لا ينفصل عن الماضي ولا يذوب في الحاضر بل يجمعهما في نص قادر على عبور الزمن.