الثلاثاء 7 أكتوبر 2025 03:21 صـ 14 ربيع آخر 1447 هـ
بوابة النور الاخبارية
رئيس التحرير محمد حلمي
×

من دفءِ الستينيات إلى برودةِ العصرِ الرقمي: الأدبُ مرآةُ السلوكياتِ المتحوّلة

الإثنين 6 أكتوبر 2025 05:11 مـ 13 ربيع آخر 1447 هـ

هل يمكن أن تعكس صفحاتُ الأدب نبضَ المجتمع كما تعكسُ المرايا ملامحَ الوجوه؟

إنّ المتأمل في تاريخ الأدب العربي الحديث يدرك أنّه ليس مجرد فنٍّ جمالي بل سجلٌّ حيٌّ لتحولاتِ السلوك الإنساني والاجتماعي عبر الزمن فالأدب لا يولد في فراغ بل ينبت في تربةِ المجتمع ويتغذى من روحه ويتلوّن بألوان عصره ومن هنا فإن مقارنةَ أدب الستينيات بما يُكتب اليوم تكشفُ عن انتقالٍ عميقٍ من دفءِ الجماعة إلى برودةِ الفردانية ومن دفاتر الحارة والبيت إلى شاشاتٍ مضيئةٍ لا تحملُ حرارة اللقاء

زمن الدفء الجماعي

في ستينياتِ القرنِ الماضي عاشَ المجتمعُ زمناً تتجلّى فيه البساطةُ والتكافلُ الإنساني كانت الأسرةُ تجتمعُ حول مائدةٍ واحدة والجارُ يطرقُ بابَ جاره من دون موعدٍ مسبق والشارعُ أشبهُ ببيتٍ كبيرٍ يحفظُ أسماءَ ساكنيه ويجمعُهم في نسيجٍ اجتماعي متين

وقد انعكست هذه الروحُ الأصيلةُ في الأدب فنجيب محفوظ في الثلاثية رسمَ بدقةٍ ملامحَ الحارةِ المصرية حيثُ العلاقاتُ متينة والقيمُ واضحة والحياةُ تسيرُ على إيقاعٍ جماعي يفيضُ دفئاً وانسجاماً

صوت الجماعة وروح الأمة

أما يوسف إدريس ففي مجموعاته القصصية مثل ( أرخص ليالي ) قدّم لوحاتٍ نابضةً بالحياة اليومية تُظهر مجتمعاً يواجهُ الفقرَ والتحديات لكنه لا يفقدُ تماسكَه الإنساني وقدرتَه على التضامن

وفي ميدان الشعر رفعَ صلاح عبد الصبور وأمل دنقل أصواتَ جيلٍ يتوقُ إلى الحرية والعدالة فجعلوا من الشعر منبراً للوعي الجمعي وصوتاً يحكي أحلامَ الأمة وآلامَها

أما في عصرنا الحاضر فقد تبدّلت السلوكياتُ الاجتماعية مع تسارعِ وتيرةِ الحياة وهيمنةِ التكنولوجيا أصبح الهاتفُ المحمولُ نافذةَ المجتمع وغابت الكثير من المجالسِ والحواراتِ المباشرة لتحلّ محلّها رسائلٌ افتراضيةٌ سريعةٌ تفتقرُ إلى حرارة اللقاء الإنساني

ولم يقف الأدبُ الحديثُ صامتاً أمام هذه التحولات بل عبّر عنها بعمق فرصدَ القلقَ والاغتراب والبحث عن الهوية كما في روايات وكتاباتِ جيلٍ رقميٍّ يكشفُ شعورَ الفردِ بالوحدةِ وسط الزحام والانفصالِ رغم وفرةِ وسائلِ التواصل

رصدُ القلق والاغتراب

من أبرز الأمثلة على ذلك رواية ( تاكسي ) لخالد الخميسي ( 2006 ) التي قدّمت ثمانيةً وخمسين حواراً مع سائقي التاكسي في القاهرة فكانت مرآةً صادقةً لتحولاتِ المجتمع المصري في مطلع الألفية الجديدة من تغيّر لغةِ الناس إلى تبدّل رؤيتهم للسياسة والعلاقات الاجتماعية

بأسلوبٍ بسيطٍ وعميقٍ في آنٍ واحد التقطَ الخميسي ملامحَ القلقِ والاغترابِ المتسللة إلى تفاصيلِ الحياة اليومية وهي الملامحُ التي مهدت لما نعيشه اليوم من انفتاحٍ رقمي وفرديةٍ متزايدة

كما تتجلّى هذه النزعةُ في كتاباتِ بعض الكتّاب الشباب على المنصات الرقمية ومنهم أحمد خالد توفيق في مقالاته المتأخرة حيثُ تتكرّرُ موضوعاتُ العزلة والحنين وصدام الفرد مع عالمٍ سريعِ الإيقاع

حتى الشعرُ الذي كان في الستينيات منبراً لقضايا الأمة أصبحَ اليوم مرآةً ذاتيةً تُعبّر عن الحنين والقلق وتجاربِ الفرد الخاصة في زمنٍ تسوده السرعةُ وتغلب عليه النزعةُ الفردية

إن السلوكياتِ الاجتماعية ليست ثابتة بل هي انعكاسٌ حيٌّ لعصرها وبين دفءِ الستينيات حيثُ الحلمُ المشتركُ والروابطُ المتينة وبرودةِ العصر الرقمي حيثُ الفرديةُ والاغتراب يبقى الأدبُ شاهداً صادقاً على تحولاتِ الروح الإنسانية

ويبقى السؤالُ معلقاً في الأفق: أيُّ زمنٍ كان أقربَ إلى جوهرِ الإنسان