تراجع القراءة في العصر الرقمي : هل الأدب في خطر؟

في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه الوسائط تراجعت القراءة من كونها نشاطًا يوميًا أساسيًا إلى ممارسة نخبوية محدودة لا يلجأ إليها إلا القليلون فمع هيمنة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي على حياة الأفراد تضاءل حضور الكتاب والنصوص الأدبية العميقة، ليحل محلها محتوى سريع الزوال قصير ومجزأ يعكس تحوّلًا عميقًا في طريقة الإنسان المعاصر في تلقي المعرفة والتفاعل معها هذا التحوّل يثير تساؤلات جادة حول مستقبل الأدب ودوره في تشكيل الوعي الجمعي
التكنولوجيا ليست العدو بل طريقة استخدامها
يذهب عدد من الباحثين إلى أن المشكلة لا تكمن في التكنولوجيا بحد ذاتها فهي أداة يمكن تسخيرها للارتقاء بالوعي أو تهميشه وإنما في الكيفية التي يتم استخدامها بها. فقد كان من الممكن للوسائل الرقمية أن تكون جسرًا ذهبيًا بين القارئ والمعرفة غير أنها في كثير من الأحيان تحوّلت إلى مصدر للتشتّت والاستهلاك السريع للمعلومة دون منح العقل فرصة للتأمل أو التحليل
لقد أصبحت المنشورات القصيرة والعناوين الجذابة والمقاطع المصوّرة السريعة بديلًا عن الكتب والروايات مما أدّى إلى تراجع القدرة على التركيز والابتعاد عن القراءة المتأنية التي تنمّي اللغة والخيال والفكر النقدي وهنا يتجلّى التحدي الأكبر كيف يمكن استعادة العلاقة العميقة بين القارئ والنص في عالم يزداد تسارعًا وتفككًا ؟
تحوّل العلاقة بين القارئ والأدب
لا يقتصر خطر العصر الرقمي على تراجع معدلات القراءة فحسب بل يمتد إلى طبيعة العلاقة نفسها بين الإنسان والنص الأدبي فهذه العلاقة كانت تقوم في العصور السابقة على التأمل الطويل والتذوق الجمالي والاندماج في عالم النص أما اليوم فقد أصبحت علاقة عابرة تهيمن عليها السرعة والاستهلاك الفوري
إن فقدان هذه العلاقة يهدد الدور الثقافي للأدب بوصفه أحد أهم الوسائط التي تسهم في تشكيل الهوية الفكرية واللغوية للمجتمع وتعميق الحس الإنساني والجمالي لدى الأفراد
الأدب لم ينته بل يتشكل من جديد
رغم هذا التراجع لا يمكن القول إن الأدب في طريقه إلى الاندثار فالعصر الرقمي أتاح في المقابل إمكانات جديدة غير مسبوقة مثل النشر الإلكتروني والمنصات الثقافية الرقمية والمدونات التفاعلية التي جعلت النص الأدبي أكثر انتشارًا وسهولة في الوصول
إن التحدي الحقيقي لا يكمن في مقاومة التقنية بل في توجيهها واستثمارها لصالح الأدب من خلال تطوير أساليب عرض جذابة وتشجيع القراءة الرقمية العميقة وربط الأجيال الجديدة بالأدب بلغة تواكب واقعهم الرقمي دون التفريط في قيمه الفكرية والجمالية
مسؤولية المؤسسات التعليمية والثقافية
يقع على عاتق المؤسسات التربوية والثقافية دور محوري في مواجهة هذا التحوّل فغرس عادة القراءة لا يتحقق عبر التوجيه النظري فحسب بل عبر بيئات تعليمية محفّزة ومبادرات مجتمعية تشجع على القراءة النقدية ومناهج حديثة تدمج بين الأدب والتقنية بذكاء كما يجب أن تتبنى وسائل الإعلام دورًا إيجابيًا في تسليط الضوء على الأعمال الأدبية وإبراز قيمتها في بناء الوعي الجمعي
إن مستقبل الأدب في العصر الرقمي ليس حتميًا بالانحسار بل مرهون بوعينا الجمعي وقدرتنا على إعادة بناء العلاقة بين الإنسان والقراءة فالأدب ليس ترفًا فكريًا بل هو ضرورة حضارية تحفظ الهوية وتُنمّي الوعي وتغذّي الروح
( القراءة ليست هواية، بل فعل مقاومة ضد التسطّح والنسيان)