الأدب والخيال.. منبع الحقيقة الخفية
الأدب والخيال ليسا مجرد متعة للقراءة ولا وسيلة للهروب من الواقع بل هما أقوى الأدوات التي يمكن للإنسان أن يستخدمها لاكتشاف ذاته وفهم العالم ففي خيال الكاتب يكمن القدرة على رؤية ما يعجز الواقع عن إظهاره وفي الأدب تتجلى الحقيقة التي تختبئ خلف صمت الحياة اليومية فالخيال الأدبي ليس ترفًا لغويًا بل لغة الحقيقة التي لا تقال إلا بالكلمة والفكرة والرمز
الخيال الأدبي يسمح للإنسان بأن يسائل وجوده ويطرح أسئلة لم يجرؤ الواقع على طرحها فكما يقول جبران خليل جبران في كتابه ( دمعة وابتسامة ) ( الخيال هو ما يجعل الروح ترى ما لا تراه العين )
في أعماله لا يكتفي جبران برسم مشاهد شاعرية بل يجعل القارئ يتساءل عن الحياة والإنسان والحرية عن الحب والروح والرحمة عن الألم والفرح والحرية الداخلية التي لا تراها العين لكن يحسها القلب فالخيال بالنسبة له ليس مجرد كلمات على الورق بل بوابة للروح والوعي وأداة لطرح ما يختبئ وراء المظاهر
أما مصطفى صادق الرافعي فقد كتب في كتابه ( قضايا الإنسان ) ( الخيال هو الطريق إلى روح الإنسان الحقيقية )
الرافعي استخدم الخيال لتجسيد المعاني الإنسانية الكبرى من شجاعة وخوف وأمل وحب محوّلًا المواقف اليومية إلى تجارب رمزية في قصصه كل حدث صغير يصبح تجربة فلسفية وكل موقف إنساني عابر يتحول إلى نافذة لرؤية الروح البشرية في أعماقها. هكذا يصبح الخيال أداة لفهم النفس قبل فهم العالم ومرآة للكشف عن ما يختبئ وراء سطور الحياة
وفي رؤية مي زيادة نجد في كتابها ( آراء في الأدب ) أن ( الخيال هو اللغة العليا التي يُفهم بها الإنسان ذاته )
بالخيال يستطيع الإنسان أن يرى العالم من زاوية أعمق أن يفهم دواخل الآخرين وأن يستشعر معاني الحياة الدقيقة بالنسبة لها الأدب ليس مجرد سرد أحداث أو وصف مشاهد بل هو رحلة استكشافية داخل الروح البشرية حيث يمكن للخيال أن يترجم المشاعر والأفكار التي لا تستطيع الكلمات العادية أن تحملها. ومن هنا يصبح الأدب والخيال وسيلة لفهم الإنسان والمجتمع وكشف الحقائق الخفية وراء المظاهر اليومية
كما أكد طه حسين في كتابه ( مستقبل الثقافة في مصر ) على قوة الخيال حين قال ( القلم أقوى من السيف حين يُكتب بالخيال والفهم )
الخيال عند طه حسين ليس مجرد أداة فنية بل وسيلة للتفكير النقدي والإبداعي من خلال الخيال يمكن للكاتب أن يعيد تشكيل الماضي أن يعيد تصور الحاضر، وأن يتخيل المستقبل بطريقة تكشف عن المعاني الخفية للواقع الأدب يصبح بهذا المعنى أكثر من مجرد حكاية إنه عملية تعليمية وروحية وفكرية في الوقت نفسه
إن الأدب بالخيال يقدم للإنسان مرآة مضاعفة للواقع يظهر له ما هو كائن وما يمكن أن يكون ويجعله يرى ذاته في ضوء أوسع ويمنحه القدرة على التفكير بعمق فالخيال ليس خروجًا عن الحياة بل أداة لفهمها بعمق واستكشافها بجرأة وتحويلها إلى تجربة روحية وفكرية
الخيال يسمح للإنسان أيضًا بأن يختبر حدود الوعي ويجرب مواقف أخلاقية وفلسفية بعيدة عن مخاطر الواقع المباشر فالقصة أو الرواية أو القصيدة هي مساحة آمنة يستطيع فيها القارئ أن يعيش التجربة كاملة أن يشعر بالفرح والخوف والحب والحزن ثم يعود إلى واقعه بعد أن يكون قد اكتسب فهمًا أعمق للإنسانية
وفي النهاية يظل الأدب والخيال معًا مصدر الحقيقة الخفية التي لا تُقاس بالقوانين ولا تُرى بالعين لكنها تُفهم بالقلب والعقل معًا وتمنح الإنسان القدرة على رؤية العالم كما ينبغي أن يكون لا كما هو فقط
الأدب هو بوابة الإنسان إلى ذاته والخيال هو المفتاح الذي يفتح هذه البوابة ليظل القارئ أمام تجربة متكاملة تجمع بين الفكر والشعور والرؤية الفنية لتصبح الكلمةفي النهايةأقوى مشرّع للحقيقة وأكثرها وضوحًا.
