متلقى أم شريك بقلم عفاف يوسف
إذا كان من الهام أن نتناول الجانبين الشعوري والعقلي عند الفنان، فلابد من تناولها أيضًا على مستوى المتلقي . فالفن لا يكتمل إلا بعين واعية وروح متذوقة .
المتلقي بحاجة إلى حدٍّ من الثقافة الفنية لتمكّنه من الفهم والمعرفة واستساغة العمل بمعناه وقيمته، لا بوصفه جمالًا شكليًا فقط، بل بوصفه جمالية فكرة وتجربة إنسانية مركّبة.
فجمالية الشكل ليست إلا السطح الأول والسهل من العمل ،، مستوى يمكن إدراكه ببساطة ودون جهد كبير، وغالبًا ما يذهب مباشرةً إلى القلب بحكم فوريّته وحضوره البصرى. لكن جمالية الفكرة أعمق وأصعب، فتتطلب تشغيلًا للوجدان والعقل معًا، واستعدادًا للتأمل ومهارة في الربط وفهم السياقات.
كثير من المتلقين يستنفرون من المبالغة في أسعار اللوحات العاليمة لفنانين رحلوا عنا بالجسد . وعلى الرغم من أنني أشاركهم هذا الشعور أحيانًا — وإن كان استنفاري شخصيًا يرتبط بمسألة عدالة توزيع القيمة — إلا أن أغلبهم لا يدرك المنطق القيمى الذي يقف خلف هذه الأرقام.
هل يغيب عنهم وزن القيمة التاريخية؟ أم لا ينتبهون لعنصر الصدق الفني والأصالة والتفرد ، والقيم التي تتجاوز الشكل وتربط العمل بسياقه الثقافي والحضاري؟
ولا حتى قليلًا منهم يتوقف ليفكر في القوى السياسية والاقتصادية التى لعبت دورًا مباشرًا في تشكيل السوق الفنى . هذه القوى التي ساهمت، في لحظة ما، خلق بيئة احتضنت فنونًا مثل الدادا أو التعبيرية التجريدية، ومنحتها قيمتها المادية والثورية والرمزية.
لذلك، إذا أراد المتلقي أن يصل إلى ذروة النشوة الفنية ، تلك الحالة التي يتحد فيها الإدراك العقلي مع الاستجابة الشعورية فعليه أن يذهب أبعد من الجماليات الشكلية. عليه أن يلمّ بالسياق، بالتاريخ، بالظروف التي وُلد فيها العمل، وبالتحولات الفكرية التي شكّلت قيمته. فالفن في جوهره معرفة أوسع من حدود اللوحة ذاتها.
الفن بطبيعته مفتوح، ويصل لكل المتلقين ولكن بمستويات مختلفة من الفهم الوعى . وغياب الوعى لايمنع المتعة ولكن يقلل من فرص الفهم الكامل ويفقد المتلقي قدرًا كبيرًا من المتعة المتناهية التي لا تتحقّق إلا حين تتكامل المعرفة مع الشعور.
فالعين قد تُعجب، لكن العقل الواعي هو من يضيء الطبقات الخفية للعمل، وهو من يمنح لحظة التلقي عمقها واتساعها.
إن الوعي هو الإطار المكمل للعمل الفني؛ يضبط زوايا الرؤية ويوضح العلاقات ويمنح التفاصيل معناها. من دونه يظل المتلقي أمام سطح جميل، لكنه لا يرى ما وراءه، ولا يلتقط الإشارات التي غرسها الفنان في البناء، ولا يكون جزءا من الحوار الوجودي أو الفكري الذي يقترحه العمل.
وليس المقصود بالوعي هنا المعرفة الأكاديمية أو التحليل المعقد ، بل مجرد استعداد للتساؤل الربط والانفتاح على التاريخ والثقافة ومسارات الإنسان.
إن المتلقي الواعي يقترب من الفن لا كمتفرج، بل كشريك في التجربة. فى أثر الحرب، صدى الفلسفة، تحولات المجتمع، تقنيات الفنان، نواياه، صراعاته ووعيه.
وحين يمتلك المتلقي هذه الأدوات تتحوّل لحظة المشاهدة من متعة بصرية عابرة إلى فكرة وجدانيه مكتملة. يصبح خلالها وعي المتلقي جزءًا من العمل ذاته.
اى انعم جزءًا غير مرئي، لكنه ضروري فى غلق الدائرة بين الفنان والعالم، فاللوحة مهما اكتملت في يد الفنان لا تبلغ ذروة جمالها إلا في عقل المتذوق وروحه .
