الثلاثاء 16 سبتمبر 2025 01:43 مـ 23 ربيع أول 1447 هـ
بوابة النور الاخبارية
رئيس التحرير محمد حلمي
×

نجيب محفوظ.. ذاكرة مصر وأيقونة الواقعية

الثلاثاء 16 سبتمبر 2025 09:51 صـ 23 ربيع أول 1447 هـ

يُعَدّ نجيب محفوظ (1911 – 2006) أحد أعظم رموز الأدب العربي في القرن العشرين وأول أديب عربي ينال جائزة نوبل في الأدب (1988). غير أنّ قيمة محفوظ لا تختزل في الجائزة وحدها بل تتجلى في مشروع أدبي متكامل رصد التحولات الكبرى في المجتمع المصري وصاغ من حياة الناس العاديين نصوصًا خالدة تجاوزت حدود المحلية لتبلغ أفق العالمية.

التجربة الأدبية وبدايات الوعي السردي
بدأ محفوظ مسيرته بالروايات التاريخية التي استوحاها من الحضارة الفرعونية مثل عبث الأقدار ورادوبيس. غير أنّه سرعان ما اتجه إلى الواقع المعاصر ليؤسس تيارًا واقعيًّا عربيًّا أصيلًا. ففي أعماله اللاحقة أصبحت القاهرة – بأزقتها وأسواقها ومقاهيها – مركزًا للسرد وفضاءً يعكس حياة الإنسان المصري بكل تناقضاته.

الواقعية بين التسجيل والتحليل
لم يكن محفوظ واقعيًّا بالمعنى التوثيقي البارد بل كان يمارس ما يُعرف بـالواقعية النقدية.

ففي الثلاثية (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) رسم صورة بانورامية لمصر ما بين الحربين العالميتين حيث تتقاطع التقاليد الموروثة مع موجات التغيير السياسي والاجتماعي.

شخصية السيد أحمد عبد الجواد تحولت إلى رمز للسلطة الأبوية القاسية التي تُخفي ضعفها خلف ستار الصرامة بينما الأبناء يمثّلون صوت التمرّد والحلم بالمستقبل.

الواقعية هنا ليست مجرد تسجيل للحياة اليومية بل تحليلٌ لبنية المجتمع وكشفٌ لصراعاته الداخلية.

البُعد الرمزي والفلسفي
رغم انتماء محفوظ إلى الواقعية فإن نصوصه لم تخلُ من أبعاد رمزية وفلسفية:
في أولاد حارتنا تتجلّى أسئلة الوجود الكبرى: الصراع بين الخير والشر السلطة والمعرفة القدر والحرية. الحارة هنا تتحول إلى رمز كوني للإنسانية جمعاء.

في اللص والكلاب نجد تأملًا وجوديًّا في معنى العدالة والانتقام حيث يقف البطل سعيد مهران ممزقًا بين الحلم الثوري وخيانة الواقع.

في ثرثرة فوق النيل يتحول النيل إلى مرآة تعكس أزمة جيلٍ مثقل بالهزائم والاغتراب.
إن هذا التداخل بين الواقعية والرمزية منح نصوص محفوظ عمقًا يجعلها قابلة لقراءات متعددة من التاريخي والاجتماعي إلى الفلسفي والوجودي.

أثره في الأدب العربي
لا يمكن الحديث عن تطوّر الرواية العربية من دون المرور بمحفوظ فقد

وضع أسس البنية السردية الحديثة للرواية العربية.
ألهم أجيالًا كاملة من الكتّاب مثل جمال الغيطاني صنع الله إبراهيم
إبراهيم أصلان وغيرهم.

جعل من الرواية أداة لفهم المجتمع وتفكيك تناقضاته فانتقلت من كونها "فنًا طارئًا" إلى أن تصبح النوع الأدبي الأبرز في الثقافة العربية الحديثة.

العالمية من قلب المحلية
إن أعظم إنجاز لمحفوظ أنه انطلق من المحلّي ليصل إلى العالمي.

فقد كتب عن الحارة المصرية فإذا بها تُقرأ في أميركا اللاتينية وأوروبا وآسيا بوصفها انعكاسًا للتجربة الإنسانية المشتركة.

ترجمَت أعماله إلى معظم لغات العالم وتحولت كثير من رواياته إلى أفلام سينمائية ومسلسلات أثرت في الوعي العربي.

نيله جائزة نوبل لم يكن اعترافًا بمصريته وحدها بل بإبداعه الذي استطاع أن يُجسّد الإنسان في جوهره.

إن نجيب محفوظ لم يكن راوٍ للأحداث فحسب بل كان مؤرخًا للوجدان المصري وفيلسوفًا للحياة اليومية. جمع بين دقة الملاحظة الاجتماعية وعمق التأمل الفلسفي فحوّل الحارة إلى أسطورة واليومي إلى ملحمة والمحلي إلى عالمي.
وسيظل إرثه الأدبي شاهدًا على أنّ الأدب العظيم هو ذاك الذي يضع الإنسان أمام مرآة ذاته ويفتح أمامه أبواب الأسئلة الكبرى التي لا تنتهي.